“آياصوفيا” وحسابات السياسة

د. سعيد الحاج

د. سعيد الحاج

رغم كثرة الملفات الملحّة، تستأثر قضية متحف آياصوفيا في تركيا مؤخراً بموقع مهم على أجندة السياسة التركية، الداخلية والخارجية، وكذلك في التداول الإعلامي والشعبي.

فقد اجتمعت الدائرة العاشرة في مجلس الدولة التركي يوم الجمعة الفائت للتقرير في دعوى إبطال قرار تحويل مسجد آياصوفيا – سابقاً – إلى متحف، وهو القرار الذي يتوقع الإعلان عنه رسمياً في أي لحظة خلال مدة أقصاها 15 يوماً من الاجتماع.

الأهمية الرمزية لآياصوفيا عابرة للأزمنة والحضارات والأديان. فهي تمثل رمزاً للحضارتين البيزنطية والعثمانية، وبالنسبة للمسيحيين والمسلمين، بسبب الأحداث التاريخية التي مرت بها والتغيرات التي طرأت عليها. فقد كانت الكنيسة أحد رموز الامبراطورية البيزنطية، وقيل إنها كانت مركز إدارة المعركة مع العثمانيين، قبل أن يحولها السلطان محمد الفاتح إلى مسجد بعد فتح القسطنطينية عام 1543، ما منحها رمزية مهمة مرتبطة بالفتح في المخيال العثماني – التركي – الإسلامي حتى يومنا هذا.

بعد تأسيس الجمهورية التركية، تحولت في عهد أتاتورك إلى متحف بقرار من المجلس الوزاري عام 1934. وفي عام 1985 أدرجتها منظمة اليونيسكو ضمن قائمة مواقع التراث العالمية. عام 1991، خصص جزء من آياصوفيا للعبادة، وعيّن له في 2016 إمام ويُرفع فيه الأذان لكافة الصلوات.

المعركة القانونية لإعادة آياصوفيا مسجداً تخوضها “جمعية الأوقاف الدائمة وخدمة الآثار التاريخية والبيئة”. وقد تقدمت أولاً للحكومة عام 2004 بذلك الطلب، دون أن تحصل على رد. عام 2005، قدمت الجمعية شكوى أمام الدائرة العاشرة لمجلس الدولة لإلغاء قرار مجلس الوزراء عام 1934، إلا أن القرار صدر عام  2008 بالرفض. استأنفت الجمعية أمام محكمة أعلى عام ليصدر القرار عام 2012 بتثبيت الحكم السابق.

ثم أعادت الجمعية الكرة عام 2016 أمام الدائرة العاشرة لمجلس الدولة، لإلغاء القرار بعدة مسوغات من ضمنها التشكيك بصحة توقيع أتاتورك على القرار المذكور، وهي القضية التي تنتظر إعلان القرار النهائي بخصوصها.

ولعل السؤال المطروح اليوم على مشارف إعلان القضاء عن قراره: هل قضية آياصوفيا دينية أم سياسية أم قضائية؟

من المعروف أن المطالبات من قبل الإسلاميين بإعادة آياصوفيا إلى وضعية المسجد وفتحه للصلوات الجماعية كأي مسجد آخر قديمة وليست وليدة اليوم. وكذلك من المعروف أن العدالة والتنمية لم يكن متحمساً لهذا الطلب، من باب أنه لا حاجة لذلك وبالتأكيد تجباً لأي تداعيات لقرار من هذا القبيل.

الحزب الحاكم منذ 2002 لم يطرح الموضوع على أجندته سابقاً، ولم يتفاعل مع الطلب عام 2004، وكان يدافع عن تمايز آياصوفيا عن باقي المساجد وبالتالي أهمية إبقائه على وضعه الحالي. بل إن الرئيس اردوغان، وفي خطاب له في آذار/مارس 2019 انتقد المطالبات بإعادة فتحه كمسجد في حين أن “مسجد السلطان أحمد (الأزرق) المجاور لا يمتلئ بالمصلين”، مؤكداً أن لهذه المناشدات أبعاداً سياسية ومحذراً من “الحيل والمكيدة” في الأمر بلهجة غاضبة.

ورغم أن أعداد المصلين لم تتغير دراماتيكياً منذ ذلك الوقت، إلا أنه تواترت مؤخراً مؤشرات على تبدل رؤية العدالة والتنمية واردوغان للأمر. ولعل أهمها قراءة سورة الفتح فيه في ذكرى فتح القسطنطينية قبل أشهر، وقول اردوغان في اجتماع اللجنة التنفيذية المركزية لحزبه “سنصلي في آياصوفيا بعد قرار القضاء إن شاء الله” كما نقلت بعض وسائل الإعلام، وطبعاً تصريحات عدد من المسؤولين بهذا الاتجاه.

في المقابل، حين قدم الحزب الجيد قبل شهر مشروع قرار للبرلمان بتشكيل لجنة تقصٍّ بخصوص آياصوفيا لإتاحة الصلاة الجماعية فيه للمسلمين، صوّت نواب العدالة والتنمية ضده وامتنع نواب حزبي الحركة القومية والشعوب الديمقراطي عن التصويت، فسقط المشروع.

اتهم الحزبُ الجيد العدالةَ والتنمية بعدم الصدق في قضية آياصوفيا، إلا أن الأخير قال إنه رفع مشروع القرار وليس موضوع الصلاة في آياصوفيا، لأن الأمر برأيه لا يحتاج للجنة بحث حيث إن المسار القضائي شارف على نهايته، فضلاً عن بعض التحفظات على مضمون المشروع وصياغته، واعداً باتخاذ “الخطوات المطلوبة بعد صدور القرار في تموز/يوليو”.

هذا التغير الكبير في موقف العدالة والتنمية من آياصوفيا خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً يمكن إحالة جزء مهم منه للمتغير السياسي الأخير، أي حزبي المستقبل والديمقراطية والتقدم بقيادة أحمد داودأوغلو وعلي باباجان. إذ يبدو أن رغبة الحزب في تقليل تأثيرهما على القواعد الإسلامية والمحافظة دفعه إلى خطاب أكثر “محافظة” من السابق بعد أن غلب عليه الخطاب “القومي والوطني” لعدة سنوات. تحت هذا السياق يمكن وضع تغير خطابه بخصوص آياصوفيا، والتلميح مؤخراً باحتمالية الانسحاب من اتفاقية إسطنبول المتعلقة بالعنف الأسري والعنف ضد المرأة، وكذلك قرار إغلاق جامعة “إسطنبول شهير” المحسوبة على داودأوغلو بغض النظر عن المسوغ القانوني لذلك.

الآن، والجميع ينتظر قرار المحكمة، تطرح تساؤلات محقة حول ماهية القرار، ومدى إلزامه للحكومة، وكذلك الخطوات المستقبلية والتداعيات.

من المهم بداية الإشارة إلى أن قرار المحكمة منوط بإلغاء قرار مجلس الوزراء عام 1934 لا أكثر. وبالتالي فالقرار يحتمل الإلغاء ورفضه فقط، ولا احتمال ثالثاً معهما. القرارات السابقة لنفس المحكمة وكذلك القرار بخصوص متحف “كارية” ذي الوضع المشابه في إسطنبول يرجحان رفض المحكمة مجدداً إلغاء القرار، بيد أن البعض يتوقع قراراً مغايراً هذه المرة بسبب تغير المزاج السياسي في البلاد عن السنوات السابقة.

بكل الأحوال، لن يكون قرار المحكمة ملزماً للحكومة في أي من الاتجاهين. فلا رفض المحكمة يمنعها من اتخاذ قرار تنفيذي بفتحه للصلاة، ولا موافقة المحكمة تلزمها بذلك، اللهم إلا أن القضاء سيكون حينها تحصيناً لأي قرار حكومي لاحق خصوصاً في مواجهة الضغوط الخارجية.

فقد صدرت مواقف تنتقد الرغبة في تحويل آياصوفيا مجدداً إلى مسجد من كل من اليونان والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وفي كل مرة كانت أنقرة ترد بأنه قرار داخلي سيادي لا حق لأحد بالتدخل فيه. لكن الأخيرة كذلك غير راغبة في الدخول بأي أزمات جديدة لا سيما مع الولايات المتحدة، ولعل ذلك ما يفسر إحالة الأمر للقضاء في حديث اردوغان قبل أيام وتأكيده أن الحكومة ستلتزم بقراره، رغم أن القرارات القضائية السابقة كانت تحيل إلى أن قرار تغيير صفة آياصوفيا منوط بالحكومة لا المحكمة.

إذن، على مستوى الحزب والحكومة تبدو الدوافع سياسية أكثر منها دينية أو قانونية، وإن كانت تبني بالتأكيد على عاطفة ورغبة شعبيتين، كما أن القرار الأخير سيكون للحكومة التي يمكن أن تلجأ – بعد القضاء – لتشريع من البرلمان يدعّم أي توجه مستقبلي لها.

هنا، لسنا بالضرورة أمام أحد قرارين متناقضين، إما الإبقاء على صفة المتحف أو تحويله لمسجد. بل قد نكون أمام خيار ثالث، بإتاحة المكان لصلاة الجماعة وربما تحويل الاسم لمسجد كما كان اردوغان ألمح سابقاً، ولكن كذلك بعدم منع السياح الأجانب من زيارته كما يحصل مع مساجد أخرى. وهو حل قد يكون مُرْضياً بالحد الأدنى لجميع الأطراف، إسلاميي الداخل والسياح الأجانب والدول الغربية، فهل تختاره الحكومة أم تلتزم قرار القضاء حرفياً كائناً ما كان؟

Exit mobile version