إلى متى يدفع الفلسطينيون ثمن عقدة الذنب الألمانية تجاه اليهود؟

تساءل الصحفي الألماني مايت يونيكوم، في صحفية ميدل إيست آي البريطانية، عن الوقت الذي من الممكن أن تكف به الحكومة في برلين عن سياساتها الخاطئة نحو القضية الفلسطينية وحقوق شعبها المشروعة قانونيا وعالميا، وذلك لمجرد شعورها بالذنب عن تاريخ أسود قد مضى اتجاه اليهود.

وروى أحداثا قد جرت على الأراضي الألمانية بدأت في 15 أيار/مايو تفاعلا مع المجريات في الأراضي المحتلة في فلسطين، حيث قال تجمع حوالي ثلاثة آلاف من الطلبة والناشطين والعرب الذين يعيشون في ألمانيا في حي نويكولن في برلين في مسيرة لدعم القضية الفلسطينية. كانت الأجواء هادئة إلى حد كبير في معظم فترة ما بعد الظهر، حيث كان الكبار الذين يرتدون الكوفية الفلسطينية يساعدون الأطفال الصغار على المرور بين المراهقين الذين يلتفّون بالأعلام الفلسطينية. كان المتظاهرون يرفعون لافتات كُتبت عليها شعارات باللغات الإنجليزية والألمانية والعربية، ويشقون طريقهم في “زونين أليه”، القلب النابض للحي العربي في برلين، حيث توجد مقاهي تقدم الشيشة ومطاعم تبيع الفلافل في كل مبنى تقريبا.

بحلول الوقت الذي فرقت فيه الشرطة المسيرة باستخدام العنف، بحجة عدم تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي، كانت الصحف في جميع أنحاء ألمانيا قد اختارت الرواية التي ستنشرها. وفقا لما أعلنته إذاعة برلين-براندنبورغ، والتي تمولها الدولة، كانت المظاهرة “شغبا معاديا للسامية”. وأشار مقال على موقع “تاغس شاو”، البرنامج الإخباري المسائي الأكثر مشاهدة في ألمانيا، إلى أنها “احتجاجات معادية للسامية”، في حين أعلنت صحيفة بيلد اليمينية “إصابة شرطي بسبب مظاهرة تدعو للكراهية”.

لم تكن هناك أي مقابلات صحفية مع المتظاهرين أثناء المسيرة أو في الأيام التي تلتها. بدلا من ذلك، كانت هناك مقاطع صوتية من الشرطة وكبار السياسيين تدين المتظاهرين، وخاصة ذوي الأصول العربية. في هذا الصدد، قال وزير داخلية ولاية برلين، أندرياس جيزل لراديو أينز: “يجب على أي شخص يريد أن يعيش هنا بشكل دائم أن يلتزم بالحرية والديمقراطية”. وقبل فترة، قال السياسي المحافظ ألكسندر دوبريندت إنه يجب ترحيل طالبي اللجوء الذين حضروا المسيرات المؤيدة لفلسطين.

حتى “دي لينكه”، أكبر حزب يساري من بين الأحزاب الستة الكبرى في ألمانيا، انضم إلى هذه الموجة. وذكر منشور من مكتب الحزب في منطقة أوزنابروك لاند: “إذا أردنا أن نكون صادقين، يجب أن نعترف بالأمر: لقد استوردنا معاداة السامية”. ولم يرد بعض أعضاء الحزب أن يكون لهم أي علاقة بالمنشور. 

تأتي أكثر التعليقات تطرفا من السياسيين والصحفيين المهووسين بفكرة معاداة السامية، وينعكس ذلك في الخطاب المنحاز ضد طالبي اللجوء العرب

تأتي مثل هذه التصريحات على الرغم من الأرقام التي تظهر أن حوالي 95 بالمئة من الهجمات المعادية للسامية سنة 2020 في ألمانيا كانت من قبل متطرفين يمينيين، وليس من المهاجرين.

تعزيز العنصرية

في ألمانيا، تعتبر ممارسة العنصرية باسم محاربة معاداة السامية أمرا شائعا. أي موقف مؤيد للقضية الفلسطينية، خاصة من المهاجرين أو الناشطين اليساريين، أمر مرفوض. هذا هو الرأي الذي يدافع عنه عديد الصحفيين الذين لا يستطيعون أو لا يريدون التمييز بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية دعما لفلسطين؛ والنتيجة خطاب إعلامي منحاز يكرس العنصرية ويتجاهل الحقائق الموضوعية.

تأتي أكثر التعليقات تطرفا من السياسيين والصحفيين المهووسين بفكرة معاداة السامية، وينعكس ذلك في الخطاب المنحاز ضد طالبي اللجوء العرب، بتعلّة أنهم يجلبون معهم معاداة السامية إلى ألمانيا التي قتلت قبل 80 سنة أكثر من ستة ملايين يهودي.

أكّد لي الصحفي الألماني اليهودي فابيان وولف مؤخرا، أن تهم معاداة السامية تم تحويلها إلى سلاح في ألمانيا منذ سنوات، واستخدمها الألمان كدرع ضد المعارضين السياسيين،حتى لو كان هؤلاء المعارضون يهودا. وقد فهمت ناشطة السلام الإسرائيلية شهف فايسبين ذلك قبل عدة سنوات، عندما اقتحم ستة ألمان من حركة “معاداة الألمان” اليسارية عرض فيلمها في مقهى يقدم الوجبات النباتية في لايبزيغ.

يقول وولف: “في ألمانيا، لا يحارب المجتمع اليهودي معاداة السامية. يتعلق الأمر بتظاهر الألمان بأنهم يقفون إلى جانب اليهود، حتى يتمكنوا من محاربة الأشخاص الذين يختلفون معهم سياسيا، ثم التظاهر بأن ذلك من أجل حماية المجتمع اليهودي”.

إن إتهام المهاجرين بمعاداة السامية أمر سهل للغاية بالنسبة للنظام السياسي ووسائل الإعلام التي توصف بأنها متسامحة تجاه أقصى اليمين وشرسة تجاه اليسار. كل هذا، على الرغم من الموروث الجماعي الذي تسعى فيه الشخصية الوطنية الألمانية جاهدة للتكفير عن الهولوكوست. يشمل ذلك دعمًا لا يتزعزع لإسرائيل، يتجسد بعدة أشكال، منها الأسلحة ألمانية الصنع التي تقضي على حياة الأطفال الفلسطينيين. وكل من ينتقد هذا الدعم، حتى الفلسطينيون أنفسهم، يوصفون بأنهم معادون للسامية.

يتغافل الإعلام عن أشخاص مثل ستيفان بالييه، وهو من النازيين الجدد، وقد قتل شخصين في هجوم على كنيس يهودي في مدينة هاله شرق ألمانيا خلال عيد الغفران سنة 2019، ويركزون على خطر معاداة السامية الذي يمثله السود الذين يلوحون بالأعلام الفلسطينية في المسيرات، وهم أهداف سهلة للسياسيين.

مبادئ العمل الصحفي

 نُظمت المزيد من المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في برلين في الأيام والأسابيع التي أعقبت احتجاج نويكولن. كانت جميعها سلمية، لكن هذا لم يمنع صحيفة “بيلد” من نشر تقارير تتحدث عن “كراهية إسرائيل” في مظاهرة شبابية في ساحة بوتسدامر وسط برلين، حيث استلقى المتظاهرون على الأرض في حركة ترمز إلى الأطفال الفلسطينيين الذين قتلوا في الغارات الجوية الإسرائيلية.

في غضون ذلك، قامت قناة “إر بي بي” بنشر تقرير تلفزيوني يصف الأجواء في إحدى المظاهرات في ميدان ألكسندر بأنها “جيدة جدًا”. وأجبرت الانتقادات الشديدة التي وُجّهت للقناة من اليسار واليمين، بما في ذلك من صحيفة “فيلت” اليمينية، قناة “إر بي بي” على حذف الفيديو من موقعها على الإنترنت والاعتذار عن تقرير لا يحترم “مبادئ العمل الصحفي”.

اكتشف الصحفي والناشط الفلسطيني الأمريكي علي أبو نعمة ما يحدث للأصوات التي تعارض الرواية السائدة عندما أخبر مذيعة “دويتشه فيله” أن الأطفال الفلسطينيين “سئموا من دفع ثمن إحساس الألمان بالذنب”.

تقع على عاتق النخب الألمانية مسؤولية تجاه يهود العالم، ولكن هذه المسؤولية لا ينبغي أن تُفرز تغطية إعلامية منحازة ودعما واضحا لجرائم الحرب

في الأيام التي أعقبت مقابلة أبو نعمة، اعتذرت قناة “دويتشه فيله” بنسختيها الألمانية والدولية، عن محتواها “المعادي للسامية” وأرسلت مذكرة إلى الموظفين لتذكيرهم بعدم استخدام مصطلحات مثل “احتلال” و”فصل عنصري” عند الحديث عن “إسرائيل”، وقالت دويتشه فيله: “ما كان يجب أن يحدث هذا الخطأ”. 

تغطية إخبارية منحازة

كان التغطية أحداث العنف في بين الإسرائيليين والفلسطينيين منحازة بشكل واضح. أعلنت صحيفة “فرانكفورتر الغماينه” في 12 أيار/ مايو أنه “تم إطلاق أكثر من 1000 صاروخ على إسرائيل”، بينما استخدمت صحيفة “تاغس شبيغل مصطلح “الإرهاب ضد إسرائيل”، ونشرت صحيفة “دويتشه فيله” عناوين مثل: “القبة الحديدية الإسرائيلية تثبت نجاحها في مواجهة صواريخ غزة” و”ألمانيا تقف إلى جانب إسرائيل”.

كان من الصعب العثور على تقارير تتحدث عن مقتل أكثر من 200 مدني في الغارات الإسرائيلية. في الولايات المتحدة، نعت صحيفة “نيويورك تايمز” -رغم نشرها قبل أيام إعلانًا على صفحة كاملة يدين المشاهير المؤيدين للقضية الفلسطينية- الأطفال الفلسطينيين الذين سقطوا ضحايا للصراع في صفحتها الأولى. في المقابل، قالت صحيفة “بيلد” الألمانية إن “الأطفال هم ضحايا إرهاب حماس”.

ونشر صحفيان من “دويتشه فيله” تحقيقا استقصائيا حول صور الأطفال العرب القتلى على وسائل التواصل الاجتماعي، وتساءلا عما إذا كانت صور الأطفال والمباني المدمّرة قد التقطت مؤخرًا في غزة، أم أنها من حملة قصف إسرائيلية سابقة؟

تقع على عاتق النخب الألمانية مسؤولية تجاه يهود العالم، ولكن هذه المسؤولية لا ينبغي أن تُفرز تغطية إعلامية منحازة ودعما واضحا لجرائم الحرب. يساهم السياسيون والصحفيون الذين يخلطون بين معاداة السامية والحركة المؤيدة للقضية الفلسطينية، على إخفاء الحقائق عن المواطنين الألمان الذين لا علاقة للملايين منهم بجرائم ألمانيا النازية ضد اليهود.

إن العالم مليء بالسياسيين العظماء، وألمانيا ليست استثناء. لكنهم هنا، أكثر من أي مكان آخر في أوروبا أو أمريكا الشمالية، يقعون تحت تأثير التغطية الإعلامية التي تفتقر إلى الدقة والموضوعية في نقل الأخبار عن واحدة من أكثر القضايا الأخلاقية أهمية في عصرنا. كما هو الحال في أي نظام ديمقراطي، يجب أن يكون دور وسائل الإعلام هو التثبت من الرواية الرسمية، وليس التأثر بهجمات السياسيين الذين يتخذون بعض الفئات الأكثر ضعفا في المجتمع كبش فداء.

Exit mobile version