زياد ابحيص
منذ بداية رمضان والاحتلال لا يتراجع إلا عند نقطة الانكسار الميداني وليس قبلها؛ وهذه الشواهد التي عايشناها جميعاً على ذلك:
- في ساحة باب العامود: واصل الاحتلال محاولة إغلاق الساحة 13 يوماً، إلى أن واجه شباب القدس واضطروه لاستجدائهم في الشارع، والتفاوض على الساحة والدرج بشكلِ مُذل، وتراجعَ بعد انكسار شرطته.
- في حي الشيخ جراح: حاول الحفاظ على تاريخ 2-5 سقفاً للإخلاء بأي شكل، وأمام الضغط الدولي والشعبي باتت محاكم الاحتلال تتصرف تحت ميزان قوى سياسي ضدها، فاضطرت للتأجيل الذي صادف 28 رمضان، وعندما تنبّه نتنياهو في اليوم السابق فقط بأن هذا الموعد سيسهم في الانفجار؛ استجدى مستشاره القانوني ليؤجل جلسة المحكمة بأي وسيلة ممكنة، وهذه معركة مؤجلة ينبغي عدم نسيانها أبداً.
- في اقتحام 28 رمضان: حاول الاحتلال فرضه بكل إصرار وتصميم، فبادر إلى العدوان على المعتكفين ليلة 26 رمضان لتقليل الأعداد، وإلى منع وصول المصلين والعدوان على المعتكفين ليلة 27 رمضان، وحشد معظم أفراد اليسام –القوات الخاصة التابعة لـ”حرس الحدود”- في الأقصى والبلدة القديمة، وحاول على مدار 6 ساعات تأمين ممر لا يزيد طوله عن 60 متراً بين باب المغاربة إلى باب السلسلة حتى يُدخل مستوطنيه إليه ويصنع “صورة اقتحام” لكنه فشل أمام أسود الأقصى، ولم يتراجع إلا بعد الفشل العملي على الأرض.
- في “مسيرة الأعلام”: خلال محاولة فرض الاقتحام في الأقصى، ورغم كل ما كان يواجهه من بسالة وإرادة، واصل الاحتلال إعلانه بأن مسار “مسيرة الأعلام” سيبقى من باب الخليل إلى باب العامود دون تغيير، ولم يتراجع إلا بعد الساعة الثالثة، بعد أن بدأ احتشاد الشباب والمواجهات عند باب العامود، فغيَّـر اتجاهها فقط ولم يلغِها، إلى أن دوّت صافرات الإنذار في القدس خلالها، فاضطر لقطعها.
- نقل المواجهة إلى اللد: بعد كل هذه الخسائر المتتالية والمتصاعدة، بقي قطاع عريض من المستوطنين من حلفاء نتنياهو مقتنعين بفكرة التصعيد والانتقام وقلب الميزان، فنقلوا المواجهة إلى اللد برعاية رئيس بلديتها المتطرف، فأشعلوا انتفاضة عارمة بين فلسطينيي الداخل في وجههم وقضوا على فكرة “التعايش” وعلى خيار “عرب الكنيست”.
اليوم في غزة، يخوض الاحتلال المعركة على نفس المنطق، ويبدو أنه لن يتراجع على أساس “التقدير العقلاني” أو “تقييم احتمالات الخسارة”، بل الأغلب أنه سيتراجع عند نقطة الانكسار وليس قبلها.
سلوك الاحتلال هذا له دلالات مهمة جداً:
أولاً: أن الاحتلال بذلك يمنح المـ.ـقـ.ـاومـ.ـة الشعبية والمسلحة فرصةَ إيقاع أكبر الخسائر به، لأنه لا يتراجع إلا بعد بلوغ نقطة الانكسار، أي أنه يكبّد نفسه كل الخسائر الممكنة من كل جولة قبل أن ينهيها، وهذا أفضل سلوك ممكن بالنسبة لنا رغم أنه يتطلب الصبر على آلامٍ أكبر في كل جولة.
ثانياً: أن تفسير هذا السلوك باختصار هو غرور القوة والطمع، وهو ما يجعله يهرب إلى الأمام ويقامر بالذهاب في كل مرة إلى مواجهة أكبر للثأر من سابقتها، فبدأ بمحاولة إغلاق ساحة باب العامود في وجه شباب القدس في رمضان وانتهى إلى تهديد وجودي يفتح أبواب نهايته على مصراعيها في وعيه وفي وعينا.
ثالثاً: لم تُفِد كل مراكز التفكير والتخطيط والدراسات، ومجتمع الاستخبارات الصهيوني الكبير والمعقد في منع هذا التدحرج النفسي الغرائزي، وهي ما تزال عاجزة عن إقناع صانع القرار بالاكتفاء بهذه الخسائر، وهو ما يؤكد بالدرس العملي عبثية الأسطورة التي عشَّشت في أوهام كثير من مثقفينا بأن هذه الأكاديميا والاستخبارات والدراسات تضع العدو الصهيوني في موضع المتقدم خطواتٍ إلى الامام دوماً، وأنها تستديم تفوقه علينا بلا نهاية.