ساري عرابي
يمكن القول إنّ مقترح الذهاب إلى الانتخابات التشريعية قد انبنى على ظرف وتفاهم، أمّا الظرف، فهو انكشاف مشروع السلطة الفلسطينية، خلال مرحلة ترامب، والذي وصل ذروته بمشروع بنيامين نتنياهو بضمّ الضفّة الغربية، ثم تاليا بموجة التطبيع الخليجي، مما دفع قيادة السلطة للمناورة وشراء الوقت وتعبئة الفراغ السياسي بالتقارب الدعائي مع حماس.
وأمّا التفاهم، فهو باتفاق ثنائيّ بين حماس وفتح، بفعل التقارب الناجم عن ذلك الظرف، على تشكيل قائمة انتخابية مشتركة بينهما، أو قائمة وطنية عامّة غطاء لفكرة القائمة المشتركة، بما يضمن لحماس العودة للاندماج في النظام السياسي الفلسطيني، ويضمن للرئيس عباس الرئاسة مجددا، وأغلبية معقولة في التشريعي، وهو اتفاق لم يُصرَّح عنه بوضوح، وإن كان معروفا في الأوساط السياسية، وينتظر الوقت المناسب للإخراج.
انهار الظرف سريعا بين يدي قدوم إدارة بايدن، بإعلان السلطة الفلسطينية عن استئنافها اتصالاتها بالاحتلال، بما في ذلك ما يُعرف بالتنسيق الأمني، وهو انهيار غير مستغرب، بالنظر إلى أنّ قيادة السلطة، التي هي قيادة حركة فتح، لم تفعل أي شيء ذي مغزى، في تغيير السياسات أو حشد الجماهير، للتصدّي لسلسلة خطوات ترامب التصفوية، الأمر الذي كان يقتضي، بانهيار هذا الظرف، من حماس التراجع عن المسار، لكن سرعان ما عاد التفاهم الثنائي للحضور، والدفع نحو الانتخابات.
في مرحلة تالية انهارت فكرة القائمة المشتركة، بإعلان من حركة فتح. وبالرغم من أنّ المعارضة للقائمة المشتركة كانت واسعة في أوساط حماس، فإنّ الحركة ببنيتها التنظيمية الصارمة وناظمها الأيديولوجي، ربما كانت قادرة على تسويق الفكرة وإنفاذها، إلا أنّ تنافض المصالح بين مراكز القوى والنفوذ في فتح، وخشية المستوى الأمني الإسرائيلي من شرعنة حضور حماس في الضفّة، أسقط المقترح.
بسقوط مقترح القائمة المشتركة، باتت احتمالات تأجيل الانتخابات الأكثر رجحانا، لأنّ هندستها لم تعد أمرا مضمونا، باستقطاب قائمتين أخريين منفصلتين عن فتح، أصوات كتلة فتح الصلبة، مما كان سيدخل هاتين القائمتين وما تمثلاه من تيارات، إلى مشهد الشرعية السياسية من جديد، بعدما اجتهد الرئيس عباس في إخراج تيار محمد دحلان خصوصا من هذه الشرعية، واتهام أنصاره بالتجنّح. وبعدما انهار مقترح القائمة المشتركة، لم يعد مضمونا دعم حماس للرئيس عباس للانتخابات الرئاسية، كما أنّ حماس قد تحوز أغلبية عادية، تشوّش، باحتمالات مفتوحة لتحالفاتها في المجلس التشريعي القادم، على حركة فتح وقيادتها.. وهكذا بات المراقبون ينتظرون العدّ التنازلي للإعلان عن إلغاء الانتخابات التشريعية، وكان متوقعا أن تكون الذريعة رفض الاحتلال إجراءها في القدس.
ماذا كانت تريد الحركتان من هذه الانتخابات؟
رأت حماس أن الأزمة السياسية مستعصية تماما، فكلّ اتفاقيات المصالحة مع فتح انهارت لعدم التزام الأخيرة بها، وإصرارها على إخضاع حماس للمصلحة الفتحاوية بالكامل دون أيّ اعتبار لنتائج آخر انتخابات تشريعية، ولا للوقائع على الأرض، في حين أنّ حماس فعليّا غير قادرة على التحرك في ساحة الضفّة الغربية، ومحاصرة في قطاع غزّة. وبينما تصرّ فتح على أن الانتخابات هي المدخل الوحيد لإنجاز المصالحة، وجدت حماس أنّ التفاهم على هذه الانتخابات، والذهاب إليها مع فتح، قد يضمن لها أوّل الأمر الشرعية السياسية بدمجها في النظام السياسي، وأن تتيح هذه الانتخابات انفتاح المجال للنشاط السياسي والعمل العام، ومن ثم فهي محاولة لكسر الجمود، والدخول في ترتيبات ما بعد عباس، بالشراكة ودون مغالبة.
أمّا فتح، فقد وجدت أولاً في التقارب مع حماس فرصة للمناورة والإشغال السياسي وشراء الوقت، إلى حين اتضاح المشهد في الولايات المتحدة، وفرصة بتوظيف الفصائل والمجموع الفلسطيني لتجديد الشرعية، المحكومة بالقدرة على الضبط والسيطرة والهندسة. ومن هنا ظلّت مصرّة على توالي انتخابات المؤسسات المتعددة، التشريعي، ورئاسة السلطة، والمجلس الوطني لمنظمة التحرير، بما يخالف القانون الأساس، والاتفاقات السابقة مع حماس وبقية الفصائل، التي تشترط تزامن الانتخابات، مما يعني أن قيادة فتح تعطي نفسها الفرصة للمناورة والتلكؤ والتراجع بعد كلّ جولة انتخابية، في حال تعارضت الرغبات مع الحسابات.
وقد أسند الرئيس عباس مرسومه الرئاسي لإجراء الانتخابات إلى قرار المحكمة الدستورية الذي حلّت به المجلس التشريعي السابق، وكانت فصائل حوار القاهرة قد دبّجت إعلانها بالاستناد لمرسوم الرئيس، مما يعني ضمنيّا الموافقة على حلّ التشريعي السابق، وإبقاء المحكمة الدستورية ورقة بيد الرئيس، الذي رفض بدوره تعديل قانون الانتخابات للعام 2017، مما يعني أيضا السماح للقضاء الإداري، بالتدخل في العملية الانتخابية، بعدما أعاد الرئيس تشكيل هذا القضاء. وهنا تتصادم القوانين والمراسيم والهياكل القانونية والمؤسسات القضائية مع أي تفاهمات في القاهرة لا تملك قوّة القوانين، الموظفة بيد الرئيس، والذي جعلته فصائل حوار القاهرة مرجعية الفرقاء، لا طرفا في الخلاف!
أين كان الخطأ؟
بغض النظر عن أيّ نقاش تأسيسي جذري يتناول جذر الأزمة، بحشر الفلسطينيين داخل مسار واحد فرضته حركة فتح على الجميع، وهو السلطة الفلسطينية، فإنّ الخطأ في إدارة العملية بالركون إلى التفاهمات، والخطابات، وحسن النوايا، والارتياح لبعض الشخصيات في فتح، دون النظر إلى الوقائع والمعطيات على الأرض، هذا بالإضافة إلى ضرورة الاعتبار بالتجربة الماضية الطويلة المريرة، وفهم بنية السلطة ووظيفتها وطبيعة طبقتها الحاكمة، ومراكز القوى والنفوذ داخل فتح، وما سوى ذلك من عوامل تأثير متعددة إسرائيلية وإقليمية ودولية.
يضاف إلى ذلك عامل إستراتيجي، وهو تمسّك قيادة السلطة ونخبة فتح الأكثر تأثيرا بوظيفة السلطة، الأمر الذي تجلّى في استعادة العلاقات والاتصالات مع الاحتلال بعد أزمة المقاصّة، وهو ما كان يطرح سؤالا جوهريّا عن انسجام هذه الوظيفة مع اندماج حماس بالنظام السياسي دون تقديم تنازلات سياسية، وهل ستقبل نخبة السلطة بذلك؟ وهل سيسمح الاحتلال بذلك؟ أم أننا حينها سندوّر الأزمة من جديد؟
إنّ تمسك نخبة فتح بوظيفة السلطة، يتعارض جذريّا مع مقترح تشكيل القائمة المشتركة، والذي إن أمكن تفهمه في سياق المصالحة، فإنّه في حقيقة الأمر أقرب للمثلث المقلوب، إذ ينبغي حسم البرنامج السياسي، وإنهاء الانقسام، قبل الذهاب إلى قائمة مشتركة، حتى في مستوى التكتيك لضمان النتائج المرجوّة منها، ولكنها كانت ستكون شرعية مجانية ممنوحة لخطّ فتح الرسمي، بلا ضمانات ممسوكة باليد. وهنا يمكن التذكير بأن فتح رفضت أن تُقدّم أي شيء لحماس مسبقا، كدفع رواتب النواب السابقين، أو رواتب بعض أسرى حماس، أو حتى رفع الحظر عن المواقع الإلكترونية المحظورة!
ما العمل؟
هذا السؤال الكبير يحتاج بسطا مستقلا، وهو سؤال لا تنقصه الإجابات، ولكن الإجابات مقيدة حين إرادة التنفيذ لاستعصاء الانغلاق الفلسطيني، وتعقد عوامل التأثير فيه، ومع ذلك، يمكن تقديم بعض الملاحظات:
1- لا ينبغي أن تسمح الفصائل الوازنة باستخدامها مجدّدا للمناورة وتجديد الشرعية وتعبئة الفراغ السياسي وإشغال الجماهير.
2- لا تجوز التغطية على تعطيل المصالحة وإلغاء الانتخابات بالموافقة على حكومة وحدة وطنية لها وظيفة طارئة، وتعمل في إطار من التفرّد الفوقي، بلا مؤسسات تشريعية أو قضائية مستقلة بالفعل.
3- في الحوار مع فتح، يجب أن تكون الأولوية في تقدير الموقف وتوقع المآلات للمعطيات والوقائع على الأرض وطبيعة البنى الحاكمة لفتح والسلطة، لا للوعود والتصريحات والتفاهمات والتطمينات والارتياح الشخصي، وفي أيّ مسألة متعلقة بالقضيّة الفلسطينية يجب تغليب الاستراتيجي على التكتيكي.
4- تشكيل اصطفاف وطني مقابل لسياسات التفرّد، ومسؤولية هذا الاصطفاف ملقاة على عاتق الجميع، من قوى وطنية وكتل انتخابية وفعاليات شعبية، ولا يمكن لفصيل واحد كحماس القيام بهذا الدور دون تكاتف الجميع، لكن حماس مطالبة أمام الجماهير بإظهار جدّيتها في هذا المسعى، وبيان ما تفعله في سبيله.
5- من وظائف هذا الاصطفاف العودة إلى الطرح الجذري للعمل من خارج نفق السلطة، وخلق توازن في الساحة الإقليمية والدولية، أمام نفوذ قيادة فتح والسلطة، وكسر استخدام فتح لمنظمة التحرير بتوظيفها لفصائل أقل من مجهرية؛ لا يعرف الفلسطينيون أسماءها ولا أسماء قادتها.