عبد الله عقرباوي
في ظل دخول المشهد الفلسطيني إلى “مسار الانتخابات” التي أعلن عنها رئيس السلطة محمود عباس نتيجة لحوارات حماس وفتح الثنائية ثم إعلان القاهرة الأخير، ينتظر الوضع في غزة متغيراً جديداً في حال جرت الانتخابات التشريعية تحديداً ومن ثم الانتخابات الرئاسية.
ويتركز هذا المتغير على احتمالية “انتهاء وضعية حماس” القائمة في غزة منذ انتخابات العام 2006.
يستند وضع حماس في غزة في الأساس، وفقاً لرؤية الحركة، على أحداث صيف العام 2007 حين تصدت لمحاولة انقلاب كان الغرض منها إفشال الحكومة الفلسطينية العاشرة التي شكلتها الحركة بعد فوزها بالانتخابات.
بمعنى أن حماس في سيطرتها على القطاع كل هذا الوقت استندت بشكل رئيسي لفوزها بأغلبية المجلس التشريعي في انتخابات العام 2006. يضاف إلى ذلك، ما حققته حماس في قدرتها على الصمود في وجه حروب الاحتلال وعملياته العسكرية ضد قطاع غزة. حيث شكل ذلك رافعة سياسية لحماس والمقاومة الفلسطينية. وتتمتع قوى المقاومة في غزة بحرية عمل كبيرة وقدرة على مراكمة البنية التحتية لقوتها السياسية والعسكرية والشعبية.
هذا الوضع الذي حافظت عليه حماس واستطاعت حمايته عبر سنوات، مكنها من المحافظة على وضعها السياسي كونها طرفاً فلسطينياً رئيسياً يمتلك أوراق قوة حقيقية ومؤثرة في معادلة الصراع مع الاحتلال.
واستطاعت كذلك من خلال هذا الوضع في قطاع غزة، أن تبني تحالفات إقليمية وعلاقات سياسية دولية مهمة. والأهم من ذلك كله، أن سيطرة قوى “رافضة للاعتراف بشرعية الاحتلال” على جغرافيا فلسطينية حال دون تمرير العديد من المسارات السياسية لتسوية الصراع على حساب حقوق الفلسطينيين.
في ظل هذا المعطى، تشير معظم الاستطلاعات والتنبؤات الانتخابية إلى حقيقة مشتركة بين المسوحات والقراءات كافة تتمثل في صعوبة تمكن “حركة حماس” من المحافظة على أغلبيتها التشريعية التي احتفظت بها منذ “فوزها بأغلبية آخر انتخابات فلسطينية”. هذه الفرضية تعني أن وضعاً جديداً سينشأ عن هذا المسار الذي دخلته الحركة ويتطلب منها الاعتراف به والتعامل معه.
هذا السيناريو لا يبدو مقلقاً لحركة حماس في حال كان الأمر يتعلق بإدارة شؤون القطاع المعيشية والمدنية وحتى الشرطية. وقد يكون حلاً مثالياً لتخفف من عبء إدارة القطاع الذي أثر على استراتيجيتها في مواجهة الاحتلال. إلا أن توقف الأمر عند هذا الحد مستبعد بشكل كبير.
والسبب في ذلك، كون عقد الانتخابات ينتمي “لمسار سياسي” أشمل يرتبط بخيارات رئيس السلطة محمود عباس وفريقه وخاضع لقدرة الاحتلال العالية على التأثير بل وهندسة نتائج هذا الحراك الفلسطيني بما يخدم استراتيجيته الاحتلالية كونه يعمل بلا ضغوط حقيقية في الضفة الغربية.
وقد أثبتت التجربة القريبة أن خطواته بجعل القدس عاصمة لدولة الاحتلال، وقراراته بضم أراضي الضفة الغربية والجولان وتبنيه صفقة القرن التي أعلن عنها بالشراكة مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، كل هذا لم ينتج عنه ردة فعل حقيقية من قبل قيادة السلطة الوطنية وحركة فتح في الضفة الغربية.
لذا، من الأرجح أن يتعدى الأمر كونه عملية انتخابية تقليدية تسفر عن تشكيل حكومة جديدة إلى كون الانتخابات خطوة لإحداث تحولات في المشهد السياسي الفلسطيني برمته وإحداث تشققات جديدة تمهد الطريق أمام الفاعل الرئيسي في المشهد، وهو الاحتلال، لفرض أجندته.
في الوقت نفسه يسعى الفريق المحيط برئيس السلطة محمود عباس عبر هذا المسار إلى أن تصبح هذه الانتخابات أحد أهم الأسس التي سيستند إليها إعادة تشكل المشهد الفلسطيني “ما بعد عباس” البالغ من عمر 85 عاماً ويعاني من أوضاع صحية غير مستقرة.
كما هي الحال في تجاوز كون حماس تسيطر على قطاع غزة وهي التي فازت في آخر انتخابات فلسطينية وطي هذه الصفحة تماماً. الأمر الذي سيؤمن لمحمود عباس وفريقه حالياً والوضع الجديد لاحقاً القدرة على ادعاء تمثيل الكل الفلسطيني بما يعزز مسارهم السياسي وربما الالتحاق بالترتيبات الإقليمية بين دول التطبيع العربي ودولة الاحتلال.
وفي هذه اللحظة، ستكون حماس أمام خيارات محدودة في التعامل مع الوضع الجديد أبرزها، السعي لوقف هذا المسار والمحافظة على برنامج المقاومة ورفض الاعتراف بشرعية الاحتلال.
إلا أن هذا يتطلب خطوات على الأرض لإثبات بقاء قدرتها على السيطرة على الأوضاع في القطاع. الأمر الذي سيقدم لخصومها مادة لاعتبارها قوة أمر واقع ترفض نتائج الانتخابات. وهنا تكمن الخطورة في وضع حماس نفسها تحت ضغط الأصدقاء والأعداء بضرورة تسليم القطاع للوضع الجديد استناداً إلى المسار الذي وافقت على دخوله ابتداءً.
الخيارات الأخرى أمام حماس تنتمي إلى إطار عام وهو القبول بالأمر الواقعوالتساوقمعه والاقتراب أكثر من برنامج الفريق المسيطر على زمام الأمور في السلطة الفلسطينية، وهو الأمر المستبعد حتى الآن.
وفي حال النظر للمشهد برمته من زاوية مصلحة وضعية المقاومة الفلسطينية وما يعزز مكانتها ودورها، تبدو الأوضاع السياسية والأمنية والمعيشية في قطاع غزة ترتبط بمعادلة غير متعلقة بمسار الانتخابات الحالي بشكل أساسي. بل ترتبط بطبيعة نظرة الاحتلال إلى القطاع بصفته جغرافيا تخضع لسيطرة قوى المقاومة وتحديداً حماس، وعدم القدرة على تغيير هذا الوضع بالوسائل العسكرية أو فرض الحصار التام.
وعليه، فإن جملة الترتيبات الإنسانية والتفاهمات التي استطاعت حماس عقدها عبر قوى إقليمية مثل مصر وقطر مع الاحتلال والتي ساهمت في تحسن الأوضاع في غزة مرتبطة بوضعية قوى المقاومة وسيطرتها على الوضع في غزة.
هذه المعادلة لا يوجد ما يهددها أو يؤثر عليها سوى تغيير قواعد اللعبة في القطاع، ووضع بنية تحتية لدعاية سياسية وإنسانية ضد سيطرة حماس في القطاع تستند إلى كون الأخيرة لم تعد “صاحبة الأغلبية” في آخر انتخابات فلسطينية. وقد تكون الانتخابات المرتقبة الخطوة الأولى في هذا الطريق.
إن تعريض هذه المعادلة للتغيير قد يدخِل حماس وغزة في رهان خطير، حيث تجد نفسها أمام تحدٍ جديد مرتبط بشرعية حكمها للقطاع بل وقدرتها على إدارة معادلة صراع مع الاحتلال بما يحفظ أمنها وسلاحها.
هذا الرهان يفتح الباب أمام جملة من السيناريوهات الضاغطة على حماس في القطاع. ورغم أن حماس غير مضطرة لهذا الرهان إلا أنها على ما يبدو قد قررت أن تغامر بوضعيتها الحساسة والمهمة لكل الحالة الفلسطينية في الموافقة على دخول مسار الانتخابات الذي يأمل البعض أن يحدث تحسناً على الوضع الإنساني والأمني في قطاع غزة. ولكن في ظل المعادلة أعلاه من المرجح أن تكون النتيجة عكسية ويعود القطاع ليصبح مجدداً حلبة صراع تنافس فلسطيني-فلسطيني يخرجه تدريجياً من كونه أرضية للمقاومة إلى ثقب أسود يبتلع القضية الفلسطينية.
إذا كانت الغاية من هذا المسار تحسين بيئة المقاومة في غزة وتخفيف الضغط عنها، فهناك مسارات أخرى جربها القطاع وأخرى ما زالت مطروحة تسهم في المحافظة على وضعية القطاع المقاومة والآمنة والمستقرة والمساندة للوضع الفلسطيني العام دون اللجوء لمسارات ذات طابع سياسي يعتريها مغامرة بأن تصبح مدخلاً لتعزيز مواقف أطراف فلسطينية لديها استعداد لدخول في مساعي الاحتلال لتصفية القضية الفلسطينية. كما قد تؤمن هذه الانتخابات مدخلاً لهذه القوى الفلسطينية المرتبطة بأجندة دول التطبيع العربي مع الاحتلال لتجد لها موطأ قدم في المشهد الفلسطيني الهش، خاصة “ما بعد عباس”.
إن مصلحة القضية الفلسطينية تنحصر بتعزيز مصادر القوة الذاتية الخاضعة بدرجة كبيرة لسيطرة الفلسطينيين أنفسهم وليس العكس. وإذا ما كانت هناك جدية من القوى الفلسطينية بتعزيز قضيتهم والتصدي للاحتلال، فيمكن فعل ذلك دون الحاجة لهذه المغامرة الخطرة، عبر برنامج نضالي شامل في الضفة الغربية تحديداً وقطاع غزة، وتعزيز الوضع المقاوم في القطاع كونه رافعة للحالة الفلسطينية برمتها، وتفعيل الجهود الدبلوماسية لحشد التأييد الدولي والشعبي.