التموضع “الرسمي” للمقاومة الفلسطينية

الثورات بطبيعتها خروج عن النسق وتمرد على الواقع، وتحدٍّ للهيكليات والبنى “الرسمية” المفروضة. والثورة الفلسطينية بطبيعتها ثارت على الاحتلال، وتحدَّت الكيان الصهيوني والمنظومة الدولية التي ترعاه، وتمردت على العجز العربي وفساده واستبداده السياسي. إذ إن إنشاء الكيان الصهيوني نفسه لم يخضع لمنطق الحق العدل والمساواة، وإنما على منطق الظلم والغطرسة والقوة.. وأولئك الذين رعوه وحموه أو أولئك الذين اعترفوا به وطبَّعوا معه، ولاحقوا قوى المقاومة، يعلمون ذلك قبل غيرهم. ولذلك، فإن الثورة سعت إلى فرض واقع جديد يستخدم لغة القوة التي يفهمها الجميع ويحترمونها، لأنها تدرك أن لغة المنطق وحدها (على ضرورة وجودها) لا مكان لها في هكذا بيئات ومنظومات؛ وأنه لا بد من الجمع بين منطق القوة وقوة المنطق.

المعادلة الصعبة:

غير أن كل الثورات، خصوصاً عندما تصل إلى مرحلة متقدمة من النضج، تحتاج إلى قيادة سياسية صلبة وكفؤة تُحوِّل التضحيات إلى منجزات سياسية، وتتقدم لقيادة الشعب أو الأمة لاستكمال استحقاقات التحرير، ولقطع الطريق على المتسلقين والانتهازيين، ولمنع الأنظمة الفاسدة وقوى الاستكبار العالمي من حرمان الثورة من قطف ثمار عملها. بيد أن هناك “معادلة صعبة” في الجمع بين الدينامية الثورية الفعالة وبين التموضع “الرسمي” بأدواته البيروقراطية، وحساباته السياسية، خصوصاً إذا كان التموضع قبل أوانه. وإذا كان التموضع يصبُّ في تقييد المقاومة وخفض سقفها وإضعاف أدائها، وإذا كانت أوراق القوة ومفاتيح اللعبة وشروطها بيد الخصوم والأعداء هي أكبر وأكثر مما لدى المقاومة من أوراق.. فيصبح التموضع “الرسمي” حينئذ أداة لخنقها وانطفائها، وليس عنصراً يضيف قوة إلى قوتها.


ثمة “معادلة صعبة” في الجمع بين الثورة على البيئة العاجزة الفاشلة المرفوضة، وبين انتزاع التمثيل الثوري من يدها، مع استمرار التعايش “الرسمي” معها. فإذا ما ذاقت الثورة “عُسيلة” الحكم و”التموضع الرسمي” قبل أوانه، وركنت إلى أدواتها السياسية، ووضعت أدواتها المقاوِمة “على الرف” بحجة انتظار “فرص مواتية”؛ فقد حفرت الثورة قبرها بيدها، وتحولت إلى حزب سياسي، وتحولت عمليات المقاومة والفعاليات الانتفلضية والثورية، وقتل جنود العدو وتدمير منشآته إلى “عبء” لا تحمله أقدامها ولا تحتمله حساباتها، وتصبح “الفرص المواتية” حلماً مؤجلاً، لا مكان لإنزاله على الواقع.

ولا حلَّ لإدارة هذه “المعادلة الصعبة” إلا أن يكون للمقاومة ما يكفي من أوراق القوة لفرض رؤيتها على البيئة “الرسمية” التي تدخلها؛ وإلا فإنها تخاطر بارتهان “رقبتها” لخصومها وأعدائها. وهذه الأوراق يجب أن تكون مستندة إلى دراسة تحليلية موضوعية، وليس إلى “تفكير رغبوي” يلهث خلف مكاسب تكتيكية، بينما يدفع أثماناً استراتيجية.

تموضع فتح في المنظمة:

ثارت حركة فتح على الواقع العربي، ورفضت حالة العجز، التي كانت تعاني منها الهيئة العربية العليا، التي كانت تمثل الفلسطينيين لدى جامعة الدول العربية حتى 1963؛ ورفضت الاندماج بمنظمة التحرير الفلسطينية عند إنشائها سنة 1964، باعتبارها منتجاً لـ”الرسمية العربية” العاجزة، وأداة لاستيعاب القوى الفلسطينية وضبط سقوف عملها. وعندما دخلت فتح في منظمة التحرير سنة 1968 كان لديها ما يكفي من أوراق القوة، فـ”نفضت” المنظمة، وشكلت مجلساً وطنياً جديداً، فرضت فيه روحها وشروطها، وغيرت ميثاق المنظمة، واستلمت قيادتها. هذا مع العلم أن المنظمة في تلك الفترة كانت متسقة تماماً مع أيديولوجية تحرير فلسطين من نهرها إلى بحرها، ومع إنهاء المشروع الصهيوني.

ومع ذلك، فإن الأعباء “الرسمية” لقيادة الشعب وتمثيله ومتابعة الثورة، أدخلت فتح ومعها قوى المقاومة في مسارات بدا معظمها “إجبارياً” بعد أن تم ضرب الثورة في الداخل، وحصارها أو عزلها أو تصفيتها في الخارج، وخصوصاً دول الطوق؛ لتضطر فتح (العمود الفقري للثورة) بعد ذلك إلى الركون أكثر للأدوات السياسية التي أوصلتنا إلى أوسلو وإلى الحالة المزرية التي نعيشها؛ بالرغم من عشرات الآلاف من الشهداء، وسنوات طويلة من التضحيات والمعاناة والآلام، التي قدمتها الفصائل الفلسطينية والشعب الفلسطيني.


أهداف المقاومة:

في هذه الأيام تدخل قوى المقاومة الانتخابات الفلسطينية، وعينها تركز على تحقيق هذه الأهداف:

1- تحقيق أغلبية لخط المقاومة، تحظى بشرعية شعبية دستورية، تُمكنِّه من تحصين نفسه فلسطينياً وعربياً ودولياً.

2- الاستفادة من الشرعية المتحققة، في إعادة بناء البيت الفلسطيني، وتجاوز مرحلة أوسلو والتزاماتها، وترتيب المؤسسات الرسمية بما يتوافق مع خط المقاومة.

3- كسر محاولات عزل المقاومة، وتحقيق تواصل شعبي فعال، من خلال الأدوات والأوعية والأطر التي توفرها المؤسسة الرسمية الفلسطينية.

4- توفير الغطاء الشرعي لخط المقاومة وقيادته لقطاع غزة.

5- توفير الغطاء للعمل المقاوم والانتفاضة بكافة أشكالها، خصوصاً في الضفة الغربية والداخل الفلسطيني.

6- إدارة العلاقات السياسية مع البيئة العربية والدولية بما يخدم مشروع المقاومة.

7- إنهاء حالة الاستفراد لفصيل فلسطيني معيّن في قيادة الشعب الفلسطيني، وبناء شراكات وطنية، وحالة “ديمقراطية” مؤسسية فلسطينية، تستوعب الشعب الفلسطيني وإمكاناته.

سؤالان جوهريان:

في المقابل، يبرز سؤالان جوهريان:

الأول: هل تملك قوى المقاومة من أوراق القوة ما يمكنها من فرض رؤيتها في المؤسسة “الرسمية” الفلسطينية؟! وفي حال فوز قوى المقاومة في الانتخابات، هل ستتمكن من تحقيق الحد الأدنى المعقول من أهدافها؟ أم أنها ستدخل في حالة من “العجز” بسبب عدم امتلاك ما يكفي من أوراق القوة؟ وبالتالي اللجوء إلى خطاب “المظلومية”.. مع استمرار تعطيل وفساد وبؤس المؤسسة “الرسمية” الفلسطينية؟!! وبالتالي مراكمة حالة جديدة من الإحباط لدى الشعب الفلسطيني.


الثاني: ماذا لو خسرت قوى المقاومة في “اللعبة الانتخابية”، فهل ستقبل بالخضوع للأغلبية التي ستتابع مسار التسوية السلمية؟!

لقد كتبنا في هذا الموضوع سابقاً، ولكننا نقول بشكل عام إن البيئات التي تواجهها المقاومة تبدو أصعب وأسوأ بكثير من تلك البيئات التي واجهتها فتح، عندما انتقلت لقيادة منظمة التحرير؛ وتبدو حسابات الفرص المتاحة أصعب بكثير مما كان سابقاً. غير أننا لا نملك إلا أن نحترم قرارات قيادات المقاومة، ونتمنى لها أن تخرج من هذه التجربة بأفضل النتائج وأقل الخسائر.

إدارة التموضع الرسمي:

لسنا هنا بصدد إعادة ما ذكرناه في مقال سابق حول ضرورة توفر ضمانات وترتيبات أساسية؛ غير أننا ننبه تحت هذا البند إلى ما يتعلق فقط بالتموضع “الرسمي”، في سبع نقاط هي:

– أن لا ينبني على الدخول أو الاندماج في المؤسسة الرسمية أيّ تنازلات عن المقاومة وبرنامجها ومساراتها.

– أن لا يُستخدم الدخول في المؤسسة الرسمية أداةً لتيار التسوية لتجديد “شرعيته”، وبث الحياة في أوصاله المهترئة، ومتابعة مساراته الكارثية.

– أن تستمر المقاومة في مراكمة قدراتها النوعية وعلى رأسها الجوانب العسكرية.

– أن تتابع المقاومة التصاقها بالجماهير وهمومها وقضاياها.

– أن تلعب المقاومة دوراً فاعلاً في إعادة بناء البيت الفلسطيني في الداخل والخارج، وإعادة الحيوية لدوائره ومؤسساته واتحاداته ونقاباته وسفاراته.


– أن تعزز المقاومة بيتها الداخلي، وتحصِّن بنيتها الداخلية وتماسكها، وتحافظ على روح التضحية والتعبئة الجهادية؛ وألا تقع في مطبَّات البيروقراطية واستهلاك الكوادر أو ركونهم لمناصب أو مكاسب داخل منظومات “البنى المخادعة” لـمرحلة “الدولة ما قبل الدولة”. وأن يكون الدخول في البنى الرسمية أداةً في تفعيل دورها لا سبباً في ترهُّلها.

– أن يكون التقاطع مع خط التسوية أو “جماعة أوسلو” ذا طبيعة مرحلية مؤقتة، باتجاه جرِّ هذا الخط نحو مسار المقاومة، وليس العكس.


لقد حذَّر عدد من الكتاب والمفكرين من أن تكون الانتخابات القادمة وصفة لإعادة إنتاج الأزمة والانقسام، وربما بدرجة أشد. بل إن المفكر الاستراتيجي وليد عبد الحي وأحد أبرز علماء المستقبليات في العالم العربي، حذر من “حرب أهلية فلسطينية” إن سارت الأمور كما يريد أعداء المقاومة وخصومها. ولذلك، فإن الدخول في هذه “المنطقة الملغومة” يحتاج الكثير من البصيرة والحذر والحزم، والتعامل مع الضرورات بقدرها، مع بقاء الهدف الأسمى “تحرير فلسطين”، بعد رضا الله سبحانه وتعالى، هو المحرك الفعال للمسيرة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

Exit mobile version