طه عودة أوغلو
لا شك أن اللاجئ الفلسطيني في سوريا لم يكن يعلم مع بدء الحرب في سوريا عام 2011 بأنه كان على موعد مع أسوأ وأطول كابوس يشهده الإنسان في التاريخ المعاصر من الحصار والنزوح والتجويع والقصف والموت والاعتقال بعدما أُجبر عشرات الآلاف منهم على الفرار خارج سوريا إلى تركيا والدول المجاورة هربا من ويلات العنف والصراع الدموي.
“التشرد” بكل ما تحتملها الكلمة من معاني الأسى والعذاب والقهر والفقر والبطالة أصبحت من المفردات اليومية المصاحبة لحياة الفلسطيني السوري الذي قضى سنوات طويلة في “مهجره القسري” حتى أصبحت فكرة العودة إلى الوطن بالنسبة لهم هي مجرد حلم أقرب إلى الخيال.
في خضم “النكبة الثانية” لفلسطيني سوريا، يجد اللاجئ الفلسطيني نفسه مهجرا من جديد لكن هذه المرة ليس لوحده بل مع أخيه ومستضيفه السوري، لتبدأ الرحلة القاسية للكثير منهم حيث يعيشون في حالة من التهجير الداخلي والتشتت في أكثر من بلد مجاور في ظل ضآلة خياراته بالعيش الكريم بسبب الظروف السياسية والإغاثية التي تتحكم بالدول التي نزح إليها.
وعليه، تسقط تبعات النزوح عليه كالقنبلة تلو الأخرى لتفجر كل اتجاهات حياته وتقتله ألف مرة في اليوم وهو يعاني الجوع ولهيب الصيف وبرودة الشتاء القارس في المخيمات المبعثرة التي تأوي النازحين الأشد فقرا على طول خط الداخل السوري والحدود التركية.
اليوم وبعد مرور تسع سنوات على الحرب السورية، وفي خضم المرارة والمعاناة التي تكبر يوما بعد يوم، بات اللاجئ الفلسطيني يتحسر حتى على أول سنوات التشرد؛ فعلى الأقل كان هناك اهتمام دولي أكبر بهم، والمساعدات كانت تصله وإن كانت خجولة ومتعثرة.. أما اليوم، ومع اجتياح فيروس “كورونا” للعالم كله، بدأت حكومات العالم تنهمك في همومها ومشاكلها الاقتصادية، وتسخير كل إمكانياتها للتخفيف عن مواطنيها، لتتراجع قضيتهم الإنسانية إلى الوراء، وتتحول أوضاعهم العامة إلى حالة يرثى لها بعد أن خسر المئات منهم فرص العمل خلال العام الماضي والحالي بسبب الأثار الناتجة عن كورونا وإغلاق العديد من المنشآت وتباطؤ أداء مختلف القطاعات.
قد يتحمل النازح الفلسطيني على الحدود حر الصيف، لكن ماذا تراه يفعل مع برد الشتاء الذي تزيد الثلوج منه قساوة، فمعظمهم لا يملكون إلا الثياب التي هربوا فيها من الحرب. ومع كل شتاء، تتجدد مخاوف النازحين إذ يجدون أنفسهم أمام خيارين اثنين إما تقديم الغذاء لأطفالهم أو توفير الدفء لهم. وقد سجلت المفوضية السامية لشئون اللاجئين وفاة الكثير من الأطفال والمسنين والمرضى عندما ضربت عاصفة ثلجية أجزاء من سوريا وتركيا.
وعلى الرغم من حملات التضامن مع الأهالي في المخيمات، إلا أن مأساة فلسطيني سوريا على الحدود التركية-السورية تتكرر مع كل شتاء في ظل انعدام حلول جذرية على أرض الواقع.. وهذه المأساة المتكررة كانت العنوان الأبرز لندوة تضامنية عقدتها الجالية الفلسطينية في هولندا عبر الفضاء الافتراضي “زووم” تحت عنوان “فلسطينيو الشمال السوري.. معاناة متواصلة إلى متى؟”، بهدف دعم اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات الشمال السوري حيث سلطت الضوء على معاناتهم الإنسانية وآليات الدعم والإسناد لهم إضافة للحفاظ على هوية اللاجئ الفلسطيني ومنع تذويبه في المجتمعات الأجنبية، كما وأكدت على الحاجة الماسة إلى مزيد من الدعم الدولي لبرامج تنقذ ملايين السوريين في جميع أنحاء العالم من براثن الفقر، وتمكينهم من تجاوز تبعات المرحلة الصعبة التي تشتد بسبب قلة فرص العمل وعدم قدرتهم على تأمين لقمة العيش بسبب تداعيات جائحة كورونا وارتفاع متطلبات الرعاية الصحية والاجتماعية بالإضافة إلى تراجع المعونات الإنسانية المقدمة لهم.
وعلى الرغم من أن حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قدمت الكثير من المساعدات والخدمات، وكانت من أوائل الدول التي بادرت إلى مد يد العون إلى الكثير من الفلسطينيين السوريين الذين هربوا من بطش النظام إلا أن مشكلتهم ما زالت تثير جدلا كبيرا من الناحية القانونية حول وضعيتهم كلاجئين لا تُطبق عليهم معايير اتفاقية اللاجئين لعام 1951، رغم أنهم الفئة الأكثر احتياجا للتمتع بتفويض الحماية الذي توفره المفوضية.
وهناك مئات اللاجئين الفلسطينيين أيضا الذي نجحوا بشق الأنفس في الدخول إلى تركيا للعمل فيها وتدبر أمورهم من الناحية المالية إلا أن بعضهم فقدّ عمله بالفعل، والبعض الأخر على وشك أن يخسرها بسبب أزمة “كورونا” وهو الأمر الذي يتطلب جهدا دوليا كبيرا لتقديم المعونات اللازمة لتخطي هذه المرحلة في ظل انغماس الدول المضيفة بتقديم برامج تخص مواطنيها فقط ولا تشمل العمال الوافدين.
كما أن غياب دور وكالة الأونروا في تركيا التي تعد خارج نطاق عملياتها، وعدم قيام مفوضية اللاجئين بتقديم أي خدمات بسبب غياب التمثيل الفلسطيني لهم، أدى إلى ترك اللاجئ الفلسطيني السوري في تركيا وعلى الحدود التركية-السورية يواجه مصيره لوحده، مما دفع المئات منهم للهجرة عبر البحار واجتياز الحدود البرية.
ومع استطالة وجود هذه المخيمات على الحدود التركية وغياب أفق واضح لمستقبل قاطنيها، فإن التحدي الأكبر لهم يكمن في مدى قدرتهم على تأمين سبل العيش والاعتماد على الذات لتغطية نفقاتهم المعيشية في ظل ضعف الخدمات والبنى التحتية والمعاناة في مجال الصحة والتعليم.
كما أن تفاقم المعاناة تجعل الخروج من المخيمات في الداخل السوري والنزوح إلى دول الجوار بمثابة مسألة حياة أو موت لكثير من العائلات الفلسطينية وهو ما يقرع ناقوس الخطر أمام موجات نزوح جديدة لكن المشكلة تبقى في تعامل دول الجوار مع اللاجئين الفلسطينيين القادمين من سوريا وقف معايير متشددة وقاسية تتطلب في كثير من الأحيان موافقات أمنية وتحديدا للإقامة بما لا يتجاوز الشهر كما هو الحال في لبنان أو رفضا لدخول الفلسطينيين وإرغامهم على العودة من الحدود والممرات غير الشرعية التي سلكها الهاربون من مناطق النزاع كما هو الحال مع الأردن.
حتى الآن لا يبدو أن حكاية معاناة اللاجئ الفلسطيني من سوريا في دول الشتات سوف تنتهي في المستقبل المنظور بينما تبقى القضية الأهم التي تطرح نفسها في هذا الصدد تتمحور حول مستقبل هذه المخيمات بعد انتهاء النزاع في سوريا وآليات التعامل معها وهل سيتم إدماج ساكنيها في مجتمعاتهم المحلية الجديدة.