“الديوانية”.. ملتقى للفلسطينيين المهجرين في مدنهم الافتراضية

مضى أكثر من 70 عاما على ترحيل أهل صفد عن مدينتهم وانتقال الثقل السكاني للشعب الفلسطيني منذ النكبة الكبرى عام 1948 من وطنهم التاريخي إلى دول الشتات.

اليوم، وفي مطلع العام 2021 يلتقي أهالي صفد مجددا للتعارف فيما بينهم وتبادل الروايات وتوثيق الرموز عن مدينتهم وقراها وأقضيتها ولكن في العالم الافتراضي من خلال “الديوانية”.

والديوانية برنامج ثقافي توثيقي فلسطيني أطلقته الجمعية التركية للتضامن مع فلسطين “فيدار” بحيث تخصص ملتقى إلكترونيا في كل مرة لتلاقي أهالي منطقة معينة والتعرف على حياة من كانوا يعمرونها وعوائلها ورموزها ونضالها ومواهب أبنائها وبناتها ومنجزاتهم في غربتهم.

وللديوانية مفهوم اصطلاحي عتيد في الذهنية العربية التي استعارت استخدام الكلمة من معاني كلمة “الديوان”، وهي المكان الذي يجتمع فيه الناس لنقاش ما يهمهم من قضايا وأمور مهمة، ليس أقلها البحث عن تاريخ تليد في خبايا وطن مفقود.

العودة للجذور

في هذا الوطن، ظهرت صفد كعنوان في ذاكرة أقدم المدن التي أسسها الكنعانيون في أحضان جبل الجرمق العالي على قمم شمال فلسطين، هذه شهادة الجغرافيا، أما التاريخ فتتصل شهادته عن صفد بالنقوش الفرعونية التي حملت اسم المدينة منذ القرن الـ14 قبل الميلاد، فيما عرفها الرومانيون باسم “صيفا” وتعني القلعة الحصينة.

استعصت صفد على الصليبيين حتى احتلوها في القرن العاشر للميلاد، قبل أن يستعيدها الفاتح صلاح الدين الأيوبي في القرن الـ12 الميلادي، لتتنقل بعد ذلك بين عصور الدول المختلفة التي تعاقبت على شمال فلسطين حتى وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، وكان عدد سكانها في ذلك الوقت يزيد على 13 ألف فلسطيني، فيما زاد عدد قرى لوائها على الـ60.

نزح الصفديون عن صفد وتشتتوا في منافي الأرض، لكنهم ظلوا ينظرون لكل ميعاد يجمعهم على ذكرها، تماما كما في الديوانية التي يصفها محمود مشينش بأنها “عنوان من عناوين تحقيق التواصل بين أهالي القرى المنتشرين في دول الشتات”.

ويقول مشينش -وهو المسؤول عن الديوانية في جمعية “فيدار”- للجزيرة نت إن فكرة الديوانية ولدت ضمن برنامج التثقيف الوطني المستمر “أجيال” الذي أطلقته الجمعية للحفاظ على تواصل الفلسطينيين في المهجر مع جذورهم الوطنية.

الديوانية في الشتات

بدوره، يؤكد رئيس الجمعية محمد مشينش أن إحياء الديوانية الفلسطينية ضرورة لا بد منها في هذه الأوقات العصيبة التي تمر بها القضية الفلسطينية، مشيرا إلى أن فكرتها مستوحاة بالأساس من ديوانيات الأهل في القرى والمدن الفلسطينية، حيث يتجمع أهالي القرية أو المدينة لتبادل الأخبار والأمور المهمة والسمر.

ويؤكد رئيس “فيدار” للجزيرة نت أن الديوانية جذبت أبناء مدينة صفد وقراها من أكثر من مكان في الشتات مثل تركيا وهولندا والدانمارك والسويد ولبنان، والذين قدموا تعريفا بقراهم وعائلاتهم وأماكن وجودهم.

رائحة الوطن

تحدث الصفديون في ديوانيتهم عن تاريخ الصناعة والزراعة والتجارة التي اعتمدت على أصواف المواشي التي اشتهرت بها صفد، وذكروا تاريخ أجدادهم في العمل بدباغة الجلود وصباغة النسيج وصناعة الكراسي والحصر التي عرفت كمهن تخصصت فيها المدينة.

وعرض المشاركون في الديوانية صورا لهضاب صفد التي لم يروها وللأنهار الأربعة حاصبيا وبانياس والدان والبريغث التي تجري من تحتها لتصب في نهر الأردن، واسترجعوا الروايات عن أشهر معالمها من مساجد وأسواق ومنازل تشهد أن هذه الأرض فلسطينية وأن كل ما عليها هو للفلسطينيين.

ووفقا لمشينش، فإن ظرف الشتات الفلسطيني وتشتت العائلات على دول متعددة أديا إلى حالة من ضياع الهوية وتفرق أبناء العائلة الواحدة، لذا جاءت فكرة الديوانية في ظل الفضاء الإعلامي المفتوح العابر للجغرافيا، والذي يساعد على لم شمل العائلات ضمن العالم الافتراضي.

تفاعل واسع

ويوضح مشينش أن “ديوانية فلسطين” تهدف بالأساس إلى ربط الأجيال بعضها ببعض من خلال الفقرات المتنوعة التي تقدمها من تعريف بالبلد والعادات والتقاليد والموروث الشعبي، بالإضافة إلى طبيعة الجمهور المخاطب الذي يضم كل الشرائح العمرية، موضحا أن 3 أجيال من أبناء الشعب الفلسطيني هم الجد والأب والحفيد شاركوا في ديوانية صفد.

ولم يختلف المشاركون على جدوى الديوانية، ولا على أهمية توقيتها، فقد وصفها ابن صفد إبراهيم العلي بأنها وسيلة لربط الأجيال الفلسطينية في ظل التحديات التي تواجه الفلسطينيين في نكباتهم المتعددة والتي تهدد الهوية والانتماء لفلسطين.

حكايات توارثتها الأجيال

أما الحاج مصطفى عيسى -وهو من أبناء مدينة صفد في عام النكبة- فقد رسم لوحات فنية مستوحاة من ذاكرة والده وجده لأحياء وأسواق المدينة التي رآها بقلبه دون أن تبصرها عيناه، في حين استعرض الإعلامي والناشط بشار زغموت أهم الأحداث التي جرت في قريته الصفصاف أثناء النكبة الفلسطينية.

إنها الديوانية إذًا، فيها حكايات توارثتها الأجيال عن صفد التي خرج منها الشهيد محمد حسن حجازي أحد فرسان الثلاثاء الحمراء الذين أعدمتهم حكومة الانتداب البريطاني على فلسطين بسبب مشاركتهم في ثورة البراق عام 1929، تلك البطولة التي خلدها “العاشقون” في ملحمتهم الأسطورية “من سجن عكا” والتي يتناقل الفلسطينيون كلماتها جيلا عن جيل لتبقى الناقوس الذي يقرع في عالم النسيان.

Exit mobile version