تشكل الصادرات بنوعيها السلعية والخدمية الجانب الأكبر من موارد النقد الأجنبي بتركيا، ولذلك يعتمد عليها الاقتصاد التركي بشكل كبير لإيجاد التوازن بين العرض والطلب من العملات الأجنبية، وتحقيق فائض بالعملات يضاف إلى احتياطيات العملات الأجنبية، كوسيلة فعالة للدفاع عن سعر صرف العملة التركية.
وتسببت تبعات فيروس كورونا في تراجع موارد النقد الأجنبي خلال العام الماضي من الصادرات السلعية والخدمة، وهو ما أدى لتراجع سعر الصرف العملة، ولهذا اتجه الاقتصاد التركي لتعويض ذلك النقص خلال العام الحالي.
وهذا ما نجح فيه حسب نتائج الشهور العشرة الأولى من العام بحسب مقال نشره الكاتب والمحلل الاقتصادي ممدوح الولي في صحيفة عربي 21 اللندنية، وذلك نتيجة وصول نمو الصادرات السلعية بنسبة 34 في المئة عن نفس الشهور من العام الماضي، ونمو الصادرات الخدمية بسبب نمو صافي إيرادات السياحة بنسبة 111 في المئة، وزادت مشتريات الأجانب للعقارات التركية مستفيدة من انخفاض الليرة، كما دخل قدر من الاستثمارات الأجنبية المباشرة يزيد عما دخل في العام السابق.
وربما يقال إنه من الطبيعي أن ترتفع الصادرات في العام التالي لعام ظهور كورونا، بعد تراجع آثارها الضارة بالاقتصاد في العام الماضي، لكن الأرقام التي حققتها الصادرات التركية في الشهور العشرة والبالغة 182 مليار دولار، والتي فاقت أرقام العام الماضي كاملا، مرشحة بنهاية العام لتخطي أرقام الصادرات بكل السنوات السابقة وتحقيق رقم قياسي للمرة الأولى.
وتضمن التوزيع النسبي للصادرات 11 في المئة للسيارات وقطع غيارها، و9 في المئة للآلات وأجزائها، و8 في المئة للملابس، و5 في المئة للأجهزة الكهربائية وأجزائها، ونفس النسبة للأحجار الكريمة والمعادن النفيسة، و4.5 في المئة للبلاستيك والمصنوعات البلاستيكية، و4 في المئة للمصنوعات من الحديد والصلب ونفس النسبة للمنتجات البترولية.
عجز تجاري مزمن
وبالطبع استفادت الصادرات من تراجع قيمة الليرة التركية الحاد في العام الحالي، لكن المشكلة أن الواردات السلعية زادت قيمتها أيضا، بنمو 22.5 في المئة، لتصل إلى 215.5 مليار دولار في الشهور العشرة، وليستمر العجز المزمن والممتد منذ عقود في الميزان التجاري السلعي. ونظرا لأن كثير من سلع الصادرات التركية يعتمد على مكونات أجنبية، فإنه كلما زادت الصادرات زادت معها الواردات أيضا
ورغم أن تحسن الصادرات الخدمية مع وجود فائض تاريخي بميزان التجارة الخدمية، يؤدى لتقليل الفجوة داخل ميزان السلع والخدمات، إلا أنه يظل الاعتماد بشكل أكبر على الصادرات السلعية، نظرا لكبر قيمتها بالمقارنة بقيمة الصادرات الخدمية وقيمة الاستثمار الأجنبي الداخل وتحويلات العاملين في الخارج، والأثر التشغيلي الأكبر لها.
ومن هنا فقد سعت السلطات التركية إلى تهيئة الأجواء الدولية للمزيد من التصدير سواء السلعي أو الخدمي، ومن ذلك تهدئة الخلافات مع اليونان والسعي للتقارب مع أرمينيا، والاستجابة لطلب رئيس وزراء إسرائيل بالإفراج عن السائح الإسرائيلي وزوجته، والسعي للتقارب مع الإمارات ومصر والسعودية، واحتواء التوتر بين الرئيسين التركي والفرنسي، وتدشين مجلس الدول التركية، وعقد القمة التركية الأفريقية.
وتشير الخريطة الجغرافية للصادرات التركية خلال الشهور العشرة الأولى من العام الحالي، إلى توجه 55 في المئة منها إلى القارة الأوروبية، و24 في المئة إلى القارة الآسيوية، وعشرة في المئة لدول الأمريكتين، و9 في المئة لأفريقيا، ونصف في المئة لأستراليا ونيوزيلندا.
ومن هنا كان عقد القمة التركية الأفريقية في محاولة لزيادة حصة الصادرات لأفريقيا، والتي بلغت أقل من 17 مليار دولار في قارة تضم 54 بلدا، مع تركز تلك القيمة في دول شمال أفريقيا الناطقة بالعربية.
تراجع حاد للصادرات للسعودية
وكان نصيب العرب 17 في المئة من مجمل الصادرات التركية، بقيمة 31.5 مليار دولار، وتصدر العراق كالعادة أعلى تلك الصادرات للعرب، تليه الإمارات ومصر والمغرب وليبيا.
وكان نصيب الدول أعضاء منظمة التعاون الإسلامي بما فيها الدول العربية 25 في المئة من الصادرات التركية، وهو ما يشير لتدني قيمة تلك الصادرات إلى دول إسلامية كبرى مثل إندونيسيا وماليزيا وباكستان وبنجلاديش ونيجيريا.
وأثر الخلاف التركي السعودي فيما بعد مقتل الصحفي جمال خاشقجي ودعوة غرفة التجارة السعودية لمقاطعة البضائع التركية، على تراجع قيمة الصادرات التركية للسعودية، والتي بلغت 214 مليون دولار فقط خلال الشهور العشرة.
وهي قيمة غير مسبوقة في تدنيها خلال العقدين الماضيين، مقابل 3.6 مليار دولار للصادرات التركية للسعودية عام 2012، والاستمرار لعدة سنوات تالية بأكثر من ثلاثة مليارا دولار.
حتى أن السعودية جاءت في العام الحالي بالمركز التاسع عشر، من بين 22 دولة عربية، في قيمة الصادرات التركية خلال تلك الفترة، لدرجة أن قيمة صادرات تركيا لليمن كانت أربعة أضعاف صادراتها للسعودية.
ورغم امتداد الدعوة لمقاطعة السلع التركية في تشرين الأول/ أكتوبر 2020 إلى الإمارات، إلا أن رجال أعمال إماراتيين برروا استمرار التعامل في السلع التركية بأن الإمارات سوف تعيد تصدير تلك السلع إلى دول أخرى، ولهذا فما زالت الصادرات التركية إلى الإمارات والبالغة 4.3 مليار دولار، أقل كثيرا مما كانت عليها قبل سنوات، حيث تخطت تسعة مليارات دولار عام 2017.
ونفس الأثر السياسي السلبي على التجارة مع أرمينيا، حيث بلغت الصادرات إليها مليوني دولار فقط، ورغم صغر الرقم إلا أنه يعد الأفضل خلال السنوات العشر الأخيرة، حتى أن قيمة الصادرات كانت صفرا في بعض تلك السنوات.
اهتمام بكل موارد النقد الأجنبي
وعلى الجانب الآخر أدى تحسن العلاقات مع اليونان إلى زيادة الصادرات التركية إليها إلى 2.5 مليار دولار، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الصادرات التركية لليونان خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة.
واذا كانت مصر قد لجأت لصندوق النقد الدولي للاقتراض منه ومن جهات أخرى، والالتزام ببرنامجه كوسيلة للحفاظ على استقرار سعر صرف العملة المصرية، كما رفعت سعر الفائدة لجذب الأموال الساخنة لتعزيز مواردها من النقد الأجنبي، فإن تركيا رفضت الوسيلتين: اللجوء لصندق النقد ورفع سعر الفائدة.
واختيار بديل خفض الفائدة لتشجيع الإنتاج المحلي وجذب الاستثمار الأجنبي، والمزيد من التصدير والتشغيل لخفض البطالة، فإنه بديل يحتاج لبعض الوقت وتفهم من جانب الشعب التركي وهو يعاني وطأة الغلاء، مع تخفيف معاناة المواطنين من الغلاء، مثلما فعلت الحكومة في رفع الحد الأدنى للأجور وإلغاء نوعين من الضريبة عليه.
ويأتي ذلك في ظل معارضة تؤجج مشاعر الغضب الشعبي، ودول خارجية تسعى لإبعاد حزب العدالة والتنمية عن السلطة، مثلما فعلت في مصر والمغرب وتونس، ومضاربين تهمهم الأرباح السريعة من المضاربة في الليرة ومستمرين في نشاطهم.
ومن هنا يصبح الاهتمام بكل موارد النقد الأجنبي مطلوبا بجانب تشجيع الصادرات، من خلال الصادرات الخدمية المتعددة الأشكال، والتي تتجاوز السياحة إلى خدمات التشييد والبناء والخدمات المالية والصحية والتعليمية والبيئية والثقافية؛ من خلال تسويق الأعمال الدرامية التركية، وتحفيز تحويلات العمالة التركية في الخارج، واستقطاب المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر والودائع من الخارج.