لم يكن في حسبان أخصائي الجراحة العامة في مجمّع ناصر الطّبي، الدكتور خالد عبد الكريم السر، أن يتحول عمله الطبي إلى سبب لاعتقاله من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي وتعريضه للتعذيب. عاش فترات صعبة طويلة، ظنّ أن الزمن قد توقف خلالها، لكن بفضل مشيئة الله، جاء الإفراج غير المتوقع، ليخرج حاملًا هموم الأسرى الذين عاش معهم المعاناة وتركهم خلفه ينتظرون لحظة الفرج.
الحصار والتحقيق
في الثلاثين من مارس 2024، وجد الدكتور السر نفسه محاصرًا داخل مشفى ناصر حيث يعمل، إثر اجتياح قوات الاحتلال لمنطقة غرب خانيونس للمرة الثانية خلال الحرب. يقول: “حوصرنا داخل المستشفى لمدة ثلاثة أيام، كنا حوالي 25 شخصًا من الكوادر الطبية، بالإضافة إلى بعض المرضى وحوالي 90 نازحًا. المستشفى كان خارج الخدمة، وكنا نحاول إعادة تأهيله بعد الاقتحام الأول في فبراير.”
يضيف الدكتور السر: “نقلونا لغرفة تحقيق ميدانية في مبنى مجاور للمستشفى لمدة خمسة أيام، وبعدها تم نقلي وعدد من الأسرى إلى معسكرات الاعتقال. خلال النقل تعرضت للضرب المبرح وتعرضت لإصابات في القفص الصدري بسبب الرباطات البلاستيكية التي قيدوا بها أيدينا وأرجلنا.” ويضيف: “في كل مرة أظهر الألم، كانوا يضربونني أكثر.”
ظروف السجن والتعذيب
كانت المحطة الأولى للدكتور السر في سجن “سديه تيمان”، الذي يصفه بأنه سيء الصيت. يقول: “السجن كان يتكون من أربعة أقسام، وكان القسم “أ” عبارة عن بركس متهالك مليء بالجرذان والحشرات وبرك المياه الراكدة.”
يتابع: “التعذيب كان نفسيًا وجسديًا؛ طلبوا مني الجلوس على الأرض لمدة 18 ساعة متواصلة وأنا مكبّل، وممنوع علي التحرك أو الجلوس بشكل مريح. إذا تحركت أو تحدثت مع الآخرين، كنت أتعرض للضرب أو الإهانة. في إحدى المرات، طلبوا مني الوقوف على ركبتي لساعتين متواصلتين.”
كما يشير الدكتور السر إلى أن أسئلة المحققين كانت تتعلق بعمله في المستشفى وعلاقته بالأسرى الإسرائيليين. ويضيف: “الضغط النفسي كان هائلًا، فالتعذيب الجسدي لا يُقارن بالعذاب النفسي الذي كنا نعيشه.”
نقل الأسرى والتحسينات الطفيفة
في يونيو 2024، وبعد الضجة الإعلامية التي أثيرت حول ممارسات التعذيب في “سديه تيمان”، تم نقل الدكتور السر مع غالبية الأسرى إلى معسكر “عوفر”. يصف المعاملة في معسكر “عوفر” بأنها أخف وطأة من “سديه تيمان”، لكنه يضيف: “رغم أن وتيرة التعذيب الجسدي كانت أقل، إلا أن الأسرى كانوا يعاملون كـ”مقاتلين غير شرعيين”، وهو ما يعني أنه لا توجد تهم حقيقية موجهة لهم.”
ويتم التعامل مع أسرى غزة جميعا على أنهم “مقاتلين غير شرعيين” وهذا يعني أن غالبية الموجودين في السجن ليس لديهم أي تهم فقد يكونون فقط موظفين حكوميين مدنيين أو كانوا في مكان اجتاحه الاحتلال فتم اعتقاله بتهمة مخالفة أوامر الجيش فيتم اعتقالهم احترازيًا وبشكل تعسفي حتى إشعار آخر لعدم وجود لائحة اتهام يمكن محاكمته على أساسها.
وينبه الطبيب السر إلى أن معسكر عوفر يختلف عن سجن عوفر فالسجن يتبع لمصلحة السجون أما المعسكر فهو تدريبي تابع لجيش الاحتلال فيه مركز للمخابرات، ومركز تدريب للجيش “فكنا نسمع إطلاق نار وأصوات تدريبات ومناورات عسكرية “.
ويضيف “”المعسكر” فيه أربعة أٌقسام، “كنتُ في القسم “أ” الذي فيه 23 غرفة لمبيت الجيش أثناء التدريب، أما الأقسام المستحدثة ب و ج و د فيسمونها سجن بنيامين، ” في بداية اعتقالي في شهر مارس كان هناك اجتياحان بريان لـمجمع “الشفاء الطبي” و”حمد”، كان هناك قرابة ألف أسير، فتم نقل غالبية المعتقلين من “سديه تيمان” لـ”معسكر عوفر” وسجن “النقب”.
ويكمل السر:”تم نقلي لمعسكر “عوفر” في شهر يونيو وأغلب المعتقلين معي كانوا من الشفاء وحمد ثم تم نقلنا لسجون أخرى كانوا ينقلونا بالباصات تقريباً كل يوم خمسين أسيرًا”.
ويلفت إلى أن في معسكر عوفر كان في كل غرفة يتواجد اثنا عشر اسيرًا تقريبًا ولكل غرفة حمام ودش يتم التحكم فيه من قبل الجنود فلا يعمل إلا في يوم واحد أسبوعيًا، وفي الأقسام الأخرى ب . ج .د كانوا يضعون عشرين أسيرًا في كل غرفة والدش خارج الغرف وهناك مسافة من نصف متر لمتر بين كل غرفتين.
ويقول: “بعد نقل أسرى غزة من سيه تيمان لعوفر وضعوا في كل غرفة كاميرتان للمراقبة، وقرروا أن تكون الفورة مرة في الأسبوع ويتابعون الكاميرات بشكل حثيث ومنعوا التواصل بين الغرف الذي كان يتم من خلال الشبابيك وإلا يتم معاقبتتا فأصبحنا معزولين عن العالم”.
ويضيف:” في “سديه تيمان” وفي عوفر كنا في عزلة تامة عن العالم لا نعرف شيء مما يدور حولنا أو في غزة أو أي خبر عن عائلاتنا”.
وينوه السر إلى أنه عندما يتم نقل الأسرى من قسم لقسم أو المحامي أو المحكمة يتم تعصيب الأعين ووضع القيود في أيدي الأسرى طوال اليوم ما عدا غرفة واحدة كنت أنا فيها غير مقيد، كان الجنود يوقظوننا منذ الفجر للعد ثم يسحبوا منا الفرشات والبطانيات ووضعها في جانب الغرفة طوال اليوم وممنوع استخدامها فيظل الأسرى جالسين على الأرض وبعض الضباط كان يأمروننا بأن نتناول الطعام أيضًا على الأرض ، وكان هذا الأمر من أصعب الأمور علينا قصر فترة النوم التي لا تتجاوز الخمس ساعات يوميًا”.
الحياة اليومية في السجن
يقول الدكتور السر: “في معسكر “عوفر”، كان الأسرى يقضون وقتهم بالصلاة والأناشيد وتبادل الحديث، ورغم قسوة الحياة داخل السجن، كانت المعنويات مرتفعة.” كما يشير إلى أن الطعام كان محدودًا، وكان الجنود يتحكمون في وقت تناوله، حتى أنهم منعوا الطعام عن الأسرى في أحد الأيام قبل الإفطار بدقائق قليلة.
ويتابع:” بالنسبة للأكل ثلاث وجبات بكميات قليلة، وهو في أوقات محددة ممنوع أن تتناوله في وقت آخر. حتى أنهم سحبوا منا الطعام في أحد الأيام ونحن صائمون قبل الإطار بعشر دقائق”.
الإهمال الطبي والتفتيشات القمعية
من بين أصعب التحديات التي واجهها الأسرى كان الإهمال الطبي. يقول الدكتور السر: “الطبيب لا يأتي إلا إذا كان الأسير على وشك الموت.” كما يتحدث عن إصابته بالجرب وكيف تركته إدارة السجن دون علاج لعدة أيام، رغم الألم الشديد.
ويشرح بالقول:” في شهر يوليو الفائت أصبنا بالجرب وتركونا نعاني من الحكة والألم دون أن يعالجونا”، متابعا: “قد ظللت لمدة شهر كامل أعاني من آلام في المعدة وأطلب منهم حبوب فلم يعطوني حتى أصبت بنزيف ونقلوني للمستشفى”.
أما التفتيش فيكون في صورة قمعية فكل أسبوع يمر الجنود مرة أو مرتين تختار وحدة القمع غرفة أو غرفتين في القسم فيأمرون الأسرى بالانبطاح على بطونهم مع وضع أيديهم على رؤوسهم ويقومون بتفتيش كل خمسة أسرى دفعة واحدة، مع تعنيفهم وضربهم ونقلهم للعزل حتى تفرغ الغرفة من الأسرى فيقومون بتفتيشها بشكل دقيق البحث عن ممنوعات كأكواب البلاستيك التي كنا نستعملها في النظافة الشخصية في الحمام ومنعوها مؤخراً، كما يتم الاغتصاب بالعصي وبعض الأدوات الكهربائية.
لحظة الإفراج غير المتوقعة
بعد أشهر من الاعتقال والتعذيب، لم يتوقع الدكتور السر أن يتم الإفراج عنه. يقول: “كانت التهم الموجهة لي تتعلق بمخالفة أوامر جيش الاحتلال والانتماء إلى تنظيم إرهابي، وهي التهم نفسها التي وُجهت لغالبية الأسرى من غزة. لذلك، كان الإفراج عني مفاجئًا جدًا.”