باسم نعيم
تُجري حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في هذه الأيام انتخاباتها الداخلية لاختيار قيادتها وعلى كل المستويات الشورية والسياسية والتنظيمية.
قد يبدو هذا الخبر عاديا إذا كان متعلقا بأي حزب أو جماعة حول العالم، تتمتع بالحرية والاستقلال والاستقرار، ولكن إذا كان الأمر متعلقا بحركة مقاومة فلسطينية فالأمر يعتبر استثنائيا لأسباب كثيرة، وخاصة تلك الحركات التي تعتبر الإسلام مرجعيتها الأيديولوجية.
انتخابات “حماس”.. رؤية من الداخل
وقبل الخوض في مبررات هذه الاستثنائية، جيد أن نتعرف عن قرب عما يحدث في هذه الانتخابات وما يترتب عنها. فقد استطاعت حركة “حماس” على مدار سنوات عمرها أن ترتقي بنظام انتخابي، وخاصة في نسخته الأخيرة، يتمتع بقدر كبير من المؤسساتية ويضمن نسبة عالية جدا من الشفافية والنزاهة.
تجري انتخابات الحركة في ثلاثة أقاليم، غزة والضفة الغربية والخارج، إضافة إلى قيادة أسرى الحركة في السجون وبسرية تامّة. وتبدأ العملية عادة من القاعدة نحو القمة، في عملية متتابعة، تبدأ من العناصر، بناء على معايير محددة بدقة، وصولا إلى انتخاب القيادة التنظيمية بمستوياتها المتعددة والقيادة السياسية والشورية، وتنتهي العملية بجمع مخرجات هذه الانتخابات في الأقاليم الثلاثة والسجون، لتشكيل قيادة الحركة داخل وخارج فلسطين، فيتشكل المكتب السياسي “اللجنة التنفيذية” ومجلس شورى الحركة العام.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن هذه العملية المعقدة والمركبة تشمل الرجال والنساء على قدم المساواة، حيث يتم تصدير قيادة نسائية في كل المستويات ولكل الملفات. تستغرق العملية في العادة عدة شهور حتى تكتمل ويعلن عن نتائجها واستلام القيادات المنتخبة مناصبهم الجديدة.
نحن كأبناء لهذه الحركة يملأنا الفخر بهذا النظام الراسخ لتصدير قيادة الحركة للسنوات الأربع القادمة، وكذلك يحدونا التفاؤل والأمل بان حركة وطنية بحجم “حماس”، عندما تمارس هذه العملية المعقدة، رغم كل التحديات، أنها قطعا ستشكل رافعة للعمل الوطني وترسيخ الممارسة الديمقراطية في الفضاء العام وحمايته، وكذلك في التأسيس لدولة فلسطينية حرة وديمقراطية.
عوداً على تساؤلنا الاساس، ما هو الاستثنائي فيما تفعله “حماس”؟
الاستثنائية في ممارسة “حماس” تتلخص في الآتي:
حرصت “حماس” على إجراء انتخاباتها بشكل دوري كل أربع سنوات بغض النظر عن الظروف المحيطة بها وخاصة في بعدها الأمني، ولَم تتخلف عن ذلك، حتى في فترات التصعيد والحرب واستهداف قيادتها وعناصرها.
ولعل التجربة في هذه المرة خير دليل ذلك، حيث تصادفت انتخاباتها الداخلية مع الدعوة للانتخابات الفلسطينية العامّة، والتي طال انتظارها، وبعد نقاش داخلي واسع ومعمق وفي كل الأقاليم وحساب المصالح والمفاسد، كان القرار بأن تمضي الحركة في انتخاباتها الداخلية واختيار قيادتها في وقتها المحدد مسبقا.
طبعا هذا التوجه له تبعات كثيرة، من أهمها أن الحركة ستجري انتخاباتها الداخلية في ساحات متعددة ولشهور، في الوقت الذي انخرطت فيه وبكل قوة في التحضير للانتخابات العامة، وشكلت اللجان المختلفة وكلفت المئات من عناصرها للانطلاق في كل مجال وميدان للترتيب لانتخابات عامة حرة ونزيهة، تليق بوطن مثل فلسطين وحركة بحجم حركة “حماس”، تنهي الانقسام وتحقق الوحدة. قطعاً فإن القيادة الجديدة ستحترم قرار الانخراط في الانتخابات العامة والتحضير لها، وتبني على ما أنجز في هذا المضمار، فهذا قرار المؤسسة وخيارها وليس قرار فرد أو مجموعة أو إقليم فيها.
حركة “حماس” حركة تحرر وطني وتعمل تحت احتلال فاشي وشرس في الداخل، وملاحقات من أدوات الاحتلال وداعميه في الخارج، ولذلك إجراء مثل هذه العملية ومشاركة عناصرها الذين يعدون بعشرات الآلاف فيها مخاطرة كبيرة جدا، وخاصة في ظل حرص الحركة على عملية شفافة ونزيهة وضمن ضوابط تنظيمية صارمة.
في ظل المعايير والثقافة المنتشرة في عالمنا العربي، والتي كثيرا ما تستغل الظروف الأمنية “المتوترة” لفرض حالة الطوارئ وتبرير التفرد وخنق الحريات وانتهاك حقوق الإنسان وفي مقدمتها حقه في التعبير عن رأيه، فإن إصرار “حماس” على إجراء هذه العملية، رغم كل المخاطر، هو نموذج يحتذى في منطقتنا من أنّ الظروف ليست مبررا بأي حال لإسقاط الممارسة الديمقراطية وسحق الحريات، بل العكس فإن هذه الممارسة والتزام دوريتها، حقق للحركة الكثير من المكاسب والإيجابيات، ولعل أهمها القضاء على “تقديس الأفراد” في العمل التنظيمي وضخ دماء جديدة في عروق التنظيم وإفساح المجال للطاقات الشابة للتقدم، وتصحيح المسارات أحياناً إذا حصل تراخي أو تراجع أو خطأ.
وهنا يمكن الإشارة إلى أن “حماس” مقارنة مع كثير من التنظيمات الفلسطينية تتمتع بمعدل تغيير قيادي غير مسبوق، فبعض هذه التنظيمات قيادتها لم تتغير من عقود، كما أن متوسط العمر القيادي في “حماس” أصغر بكثير من معظم التنظيمات الفلسطينية، والتي يحكمها قيادات تجاوزت أعمارهم السبعين والثمانين ربيعاً.
حركة “حماس” حركة مقاومة وطنية، ولكن منطلقاتها الأيديولوجية إسلامية. وفي كثير من الأحيان تتهم الحركات الإسلامية في منطقتنا وحول العالم، بأنها لا تؤمن بالديمقراطية حقاً، وإذا شاركت في أي انتخابات فإنها تفعل ذلك فقط للوصول إلى السلطة، ومن ثم تنقلب عليها وتمارس “الديكتاتورية الدينية” وهي أسوأ وجوه الديكتاتورية.
من ناحية ثانية لا يستطيع أي إنسان موضوعي أن ينكر أن الكثير من الإسلاميين وحتى فترة قريبة كانوا يناقشون فكرة الديمقراطية ومدى توافقها مع منهج الإسلام، ولا سيما أن مصدر التشريع الأساس عند المسلمين هو الإسلام، والديمقراطية تعني حكم الشعب، وإنه، أي الشعب، هو مصدر السلطات.
معظم حركات الإسلام السياسي، وخاصة التي تبنت فكر جَماعَةُ الإخوان المسلمين، حسمت هذه القضية منذ عقود، على اعتبار أنه لا تناقض جوهري بين الديمقراطية والشورى، التي يعتبرها الإسلام أصلا ملزما في منظومة الحكم عند المسلمين، وأن الديمقراطية هي شكل متطور ومرن من أشكال ممارسة الأمة الإسلامية حقها الأصيل في الشورى ونفي التفرد في الحكم، الذي لم يجلب للأمة الإسلامية على مدار تاريخها إلا التخلف والدمار والشرذمة والاستباحة من قبل الأعداء، كما أن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية ودولة مواطنيها، وأنّه لا دولة “دينية” في الإسلام بالمفهوم الغربي للدولة الدينية “الثيوقراطية” والتي يحكمها رجال الدين، ولَم يعاني المسلمون من مآسي تجربة الدولة الدينية التي عاشها الغرب فِي العصور الوسطى، والتي سلبت الإنسان حريته في الاختيار وقدست الحكّام وجعلت الدين على النقيض من العلم والعقل، وعليه فإن معظم الحركات الإسلامية في منطقتنا شاركت بفاعلية في الانتخابات في أوطانها وفي مختلف الساحات السياسية والنقابية والبلدية وغيرها.
“حماس” لم تبدأ ممارسة العمل الديمقراطي بعد تحولها إلى جسم سياسي فاعل في الساحة الفلسطينية، بل إنها انتهزت كل فرصة للمشاركة في العملية الديمقراطية من خلال الانتخابات حتى قبل أن تطلق على نفسها اسم “حماس”، فشاركت في الانتخابات الطلابية في الجامعات، والنقابية والبلدية والجمعيات الاهلية، وقدمت نموذجاً في الايجابية والمبادرة واحترام الرأي الآخر، ولم يسجل في تاريخها أن رفضت او انقلبت على نتائج أي انتخابات شاركت فيها، حتى لو شعرت بالإجحاف أحياناً، ولعل المرونة العالية التي أبدتها في الحوارات الوطنية لتحقيق الوحدة وإنهاء الانقسام ودفع العملية الديمقراطية إلى الأمام وتنازلها عن الشكل الذي تراه مناسباً للنظام الانتخابي، والقبول بالنظام الحالي القائم على النسبية الكاملة، دليل آخر على تقديم المصلحة الوطنية على موقفها الحزبي، رغم أن موقفها الأصلي كانت دوافعه وطنية بحتة، وتفضيل نموذج أقدر فنياً على تمثيل الشارع والاقتراب من همومهم الفردية والمناطقية.
انتخابات “حماس” الداخلية هي إنجاز وطني بامتياز، لأن حركة بهذا الحجم والتأثير، فإن قناعاتها وممارساتها ستنعكس، سلبا وإيجابا، على الوطن والمواطن حاضراً ومستقبلاً.