انتصار باب العامود ليلة الإسراء في رمضان

مخلص برزق

وأنت تحثُّ الخطا نحو مسجدك متمتماً ب “اللهمَّ اجعلْ في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خَلْفي نوراً، واجعلْ لي في نفسي نوراً، وأَعظِمْ لي نوراً”، ارفع رأسك إلى السماء قليلاً وتأمَّل البدر المنير وقد اكتمل وفاض سناه ليملأ الكون ضياءً وبهاءً، يرقب الغادين إلى المساجد في أعظم ليالي الدَّهر، وتذكَّر حينها جرير بن عبد الله رضي الله عنه يُحدِّثك عن ليلة شبيهة بليلتك وهو يستمع إلى النُّور يفيض من فم نبيِّه وحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ينساب قائلاً: “إنّكم سترَون ربَّكم كما تروْن هذا القمرَ، لا تُضامون في رؤيتِه، فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاةٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ، وصلاةٍ قبل غروبِ الشمسِ، فافعلوا”. متفق عليه


هي ليلة من ليالي رمضان المبارك، وكلّ لياليه مباركة طيبة، غير أنّ هذه الليلة لها نكهة مقدسيّة خاصّة، ليلة تهيج فيها المشاعر شوقاً إلى الأقصى الحبيب، ليلة تخفق فيها القلوب وتذرف فيها المآقي والعيون.
ليلة يحلّ فيها المسجد الأقصى في كل المساجد.. هناك في البيت الحرام ستتردد آيات الإسراء في جنباته، ويتلوها الإمام في المسجد النبوي الشريف قرب قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم وحجراته.


يحلّ المسجد الأقصى في كلّ مسجد يحرص مرتادوه على الصّلاة بجزءٍ من القرآن في صلاة التراويح، ويحلّ في كلّ بيت يؤمّ الأب أهل بيته بالتراويح، ذلك لأنّهم على موعد مع الجزء الخامس عشر الذي يفتتح بسورة الإسراء، إنّها ليلة الإسراء في رمضان.
فيالها من تلاوة يستحضر فيها القائم ليله منّة الله تعالى على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وإكرامه بما خصّه به ليلة إسرائه ومعراجه من كرامات لا حصر لها له ولأمّته صلّى الله عليه وسلّم.


إنّها ليلة النّصف من رمضان، والمصلُّون فيها على موعد مع زادٍ روحي وإيماني لا حدود له، أمّا الحبيب صلى الله عليه وسلم فقد كان يحرص كلّ ليلة على ذلك الزّاد كما أخبرت بذلك أمّ المؤمنين الصدّيقة عائشة رضي الله عنها أنَّه (كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لا ينامُ حتَّى يقرأ الزُّمرَ وبني إسرائيلَ) صحيح الترمذي.


نسمات من الأقصى الحبيب تعطّر تلك الليلة تسوقها لنا آيات الإسراء لتطبِّب قلوباً مكلومةً بفقده، مفجوعةً بحرمانه، ففيها البشارة بعودته عزيزاً مكرَّماً لأحبابه وأصحابه، فيها البشارة بدخولٍ عُمَريٍّ جديدٍ يُتَبّر كل جدران بني صهيون وتتدفّق معه كلّ القلوب لتسجد في موطن الإخبات والإنابة العبق بأنفاس الأنبياء والمرسلين.


ويا له من شهرٍ مفعمٍ بأجواء انتصار سطَّره شباب القدس في ملحمة بطولية أعادوا بها لشهر رمضان ألقه ونبضه الجهادي، ونجحوا بصمودهم وثباتهم أن يوقظوا الأمّة من سباتها، لتتعلَّق الأنظار بالملحمة المقدسيّة الأسطورية، وتسري الأرواح إلى المدينة المقدسة لتتابع وقائع انتصار الكفّ على المخرز، وغلبة الفئة المؤمنة القليلة على الكثرة الكاثرة من ساسة الإجرام في الأرض.


في لحظة من لحظات الزمن الرمادي الذي ابتلينا بالعيش فيه، انتفش أهل الباطل واستعلى الذين ضُربت عليهم الذلَّة والمسكنة، وعمّ فسادهم الأرض، وظنّوا أنّ الأمور قد استقرت لهم، وأنَّ الرِّياح باتت تهبُّ رخيّة لتمخر سفينة مشروعهم الصهيوني عباب بحرنا وأرضنا وجوِّنا، وليشقّ قطار التطبيع طريقه مارّاً بالعديد من الدّول العربية التي آثرت الخضوع والخنوع بتطبيعها المخزي مع الكيان الصهيوني، فيما تسارع دول أخرى سرّاً وعلانية إلى تعبيد شبكة الطّرق التي سيقيمون عليها سكّةً للقطار المشؤوم. كلّ ذلك والشعوب منشغلة بجائحة كورونا والأزمات الطاحنة التي يسبّبها لهم الطّغاة المتحكّمون بمصائرهم، الجاثمون على صدورهم.


في تلك الأيام الثّقيلة على قدسنا وأقصانا وأرضنا المباركة أراد نتنياهو وحزبه قطع شوطٍ واسعٍ في جريمة اغتصابهم وتهويدهم للمدينة المقدّسة بتناغمٍ تامٍّ مع التَّيارات اليمينية شديدة التّطرف التي حازت على نسبة معتبرة من الأصوات في الانتخابات الصهيونية الأخيرة.


غير أن حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر، فكافة الإجراءات الاستفزازية التي اتخذتها حكومة النتنياهو مطلع شهر رمضان للتضييق على تدفّق المصلين إلى المسجد الأقصى وفرض إجراءات تهويدية وإذلالية كأمر واقع قوبلت بغضب عرمرمي من شبان القدس تُوِّج بإفشال خطة حصار المسجد الأقصى ومصادرة باب العامود بالكامل.


استشرس الشباب المقدسي دفاعاً عن طهر الأرض المباركة التي عشقوا، وتحوّلوا إلى أسود تزأر في وجه قطعان المغتصبين والأجهزة الأمنية الصهيونية، وتمكنّوا بصبرهم وثباتهم وإصرارهم وقوة إرادتهم من فرض السِّيادة التّامة على باب العامود وإرغام المحتلين على إزالة الحواجز الحديدية التي ظنّوا أنها ستشكل واقعا جديداً لا يمكن تغييره، واضطروا صاغرين مدحورين أن يزيلوها بالكامل، تماماً كما فعلوا من قبل مع البوابات الإلكترونية في شهر تموز (يوليو) عام 2017.
كان المشهد الأخير الذي اختتمت فيه ملحمة “هبّة باب العامود” سجدة انتصارٍ في السّاحة التي شهدت كرّاً وفرّاً بين الشباب المنتصرين وأجهزة العدو المصابة بالذّهول والشّلل إزاء رجالٍ يُحبّون الموت ويتشهَّونه كما يعشق بني صهيون الحياة ويحرصون عليها.


انتصار جديد يسطّره أبناء القدس على المحتلين في ليالٍ عظيمة مباركة يفوح منها عبق بدر وفتح مكة وعين جالوت، ونتنسَّم من خلاله رائحة نصرٍ مؤزَّرٍ مبين يُجْلِي بني صهيون عن أرضنا وقدسنا وأقصانا في يوم نراه قريباً. وإلى أن يكرمنا الله تعالى به فسنترك العنان لقلوبنا المجهدة وأرواحنا المتعبة أن تسري هذه الليلة إلى الأقصى المبارك مع كلّ حرف من آيات سورة الإسراء التي تتعطَّر بها بيوت الله.


دعوا الأرواح تشارك المقدسيين فرحتهم بنصرهم المبارك..
دعوا المآقي التي سكبت العبرات سخينة حرّى شوقاً للأقصى الحزين، تسكبها باردة قريرة فرحاً بسجود المقدسيين في باب العامود منتصرين.


ولأنَّها ليلة مباركة من شهر رمضان المبارك.. املؤوها دعاءً أن يشرِّفكم الله بنصرة الأقصى كما نصروه، وأن يجعل لكم أوفر النصيب من سهام تحريره، عسى أن يأتي رمضان القادم وجموع المسلمين تشدّ رحالها لتستمع إلى سورة الإسراء ليلة نصفه من الأقصى المبارك محرّراً، ومن بيوت الله في أكنافه المباركة، مساجد حيفا ويافا والجليل، واللدّ والرملة والخليل.

Exit mobile version