إن موقفنا في النقاش الدائر حول كيفية معاملة المهاجرين أو اللاجئين لا يعني بأي حال أننا لا ننظر إلى الهجرة غير الشرعية كأزمة. إلا أنه يستحيل بطبيعة الحال شرح ذلك لمن أعمتهم العنصرية، ولا نملك إلا الدعاء لهم بالإصلاح، وأن يمنحهم الله العقل والبصيرة.
في الواقع، حينما نتحدث عن حقوق المهاجرين، نشير في الوقت ذاته إلى التدابير التي يجب أن تتخذها تركيا في سبيل مكافحة الهجرة غير الشرعية. فكما أنه لا يوجد أحد يرغب طوعاً بأن يضحى لاجئاً ويغادر وطنه، لا يوجد في المقابل بلد يريد أن يكون موطناً للهجرة غير الشرعية.
إن تركيا لا ترغب في الأصل أن يضطر أحد لمغادرة بلده سواء من سوريا أو العراق أو أفغانستان أو أي بلد آخر، ويطرق باب اللجوء، لا تريد ذلك إطلاقاً. وهي تتخذ التدابير لمنع ذلك.
ويكفي النظر إلى ما قامت به تركيا في سوريا على مدار 6 أعوام، من أجل فهم أبعاد التدابير التي اتخذتها إزاء قضية اللاجئين؛ حيث قامت تركيا بثلاثة أمور مهمة للغاية من أجل اللاجئين السوريين، يجب على الجميع رؤيتها بشكل واضح لا لبس فيه.
أولاً، إنشاء منطقة آمنة داخل سوريا، يمكن أن يلجأ إليها الناس داخل بلدهم، هرباً من الظلم الذي يتلقونه على يد نظامهم. ولقد حاولت تركيا في الأصل الضغط على المجتمع الدولي منذ بداية الأزمة في سوريا، أي منذ أول موجة لجوء قدمت إلى تركيا من سوريا، لكن دون جدوى. وحينما ارتفعت وتيرة موجات اللجوء إلى تركيا، في ظل تعنت المجتمع الدولي ورفضه إنشاء منطقة آمنة، لا سيما من قبل الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، شقت تركيا طريقها بنفسها لتحقيق هذا الهدف. وتمكنت أخيراً بعد قيامها بثلاث عمليات عسكرية ضخمة داخل سوريا، من إنشاء منطقة آمنة هناك. وبذلك تمكن ما لا يقل عن 6 ملايين إنسان من اللجوء إلى هذه المنطقة الآمنة بدلاً من التوجه إلى تركيا. ولو لم تقدم تركيا على هذه الخطوة، لرأينا الآن 6 ملايين إنسان يسعون لطرق باب اللجوء نحو تركيا. وهذا يعني أن تركيا لم تشجع أصلاً السوريين على اللجوء إليها، بل بذلت كل ما تملك من جهود من أجل عدم تركهم للموت، وتوفير بيئة آمنة لهم داخل سوريا يمكنهم فيها مواصلة حياتهم قدر الإمكان.
ثانياً، تشجيع من يريد التوجه نحو المناطق الآمنة، لكن دون إجبارهم بالطبع، بل العمل على تمهيد الطرق لأجل ذلك. وبذلك عاد ما لا يقل عن 500 ألف شخص إلى سوريا. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار قسماً كبيراً من السوريين الذين توجهوا نحو دول أخرى عبر تركيا، نجد أن عدد السوريين في تركيا انخفض إلى 3.6 مليون، من غير أن تحيد تركيا عن الخط الإنساني في سياستها إزاء اللاجئين.
الشيء ذاته تحاول تركيا فعله في أفغانستان. بيد أن البعض لا يزال يتساءل حول الوجود التركي في أفغانستان، دون أن يدرك أنّ وجود تركيا هناك يعتبر في الواقع محاولة من أجل الحد من إنتاج المزيد من المهاجرين الأفغان على المدى الطويل. إلا أن هؤلاء لا يملكون أفقاً أو نية تمكنهم من ذلك.
على صعيد آخر، لا يمكن القول إن الهجرة هي أزمة تعني تركيا وحدها، بل هي أزمة يتحمل مسؤوليتها العالم كله، لا سيما بلدان العالم المتقدم. ومع ارتفاع مستوى انعدام العدالة في توزيع الدخل في العالم، ومع زيادة وتيرة انعدام الاستقرار، فمن الطبيعي إذن أن يشهد هذا العالم موجات هجرة من المناطق الفقيرة وغير الآمنة، نحو المناطق الغنية والآمنة. وهذا يعتبر في الواقع من أبسط قواعد علم الاجتماع وأكثرها شيوعاً على مر التاريخ.
من الواجب محاولة التعامل مع هذا الوضع ضمن أكثر الطرق إنسانية، بيد أنه مهما حاولت دول العالم مكافحة هذا النوع من الهجرة، ستجد نفسها أمامه بالمرصاد، بما في ذلك الولايات المتحدة ذاتها. ولذلك إلى الآن لم تتوقف موجات الهجرة من دول أمريكا اللاتينية نحو الولايات المتحدة، على الرغم من جميع التدابير المتخذة والجدران التي أقامها ترامب، إلا أنهم لم يتمكنوا من إيقاف الهجرة بشكل تام.
ثالثا، لقد بدأت تركيا منذ وقت طويل في العمل على بناء جدار أمني على الحدود مع سوريا، وإننا نرى الآن جميعا وتيرة العمل المتسارعة في بناء مثل تلك الجدران الأمنية على الحدود مع إيران، من أجل منع هجرة الأفغان غير الشرعية نحو تركيا.
وبالطبع مهمة الجدران الآمنة على الحدود مع سوريا ليست لمكافحة الهجرة فحسب، بل من أجل مكافحة الإرهاب أيضا، ومن الواضح للغاية كيف أسهم ذلك بشكل فعال في ثني ذراع الإرهاب خلال السنوات الأخيرة.
وعلى عكس أولئك الذين ينظرون إلى أزمة الهجرة في تركيا على أنها تعكس سلبية الوضع الاقتصادي للبلاد واستقرارها السياسي، نجد أنها تشير إلى تطور البلد مما جعله مقصداً أفضل وأكثر أمانا.
لكن بالطبع ليس من المحبّذ أن نقول ذلك أيضا، لأن هناك بعدا للاستغلال الاقتصادي في هذه القضية، على الرغم من الاقتصاد التركي سرعان ما يجد فرصة لهؤلاء المهاجرين ويدمجهم في سوق العمل. ولا نقول ذلك من خلال النظر إلى العمالة الرخيصة، بل من خلال الاعتراف بأن هؤلاء المهاجرين يلبون حاجة مهمة في مجالات الزراعة والبناء والإنتاج الصناعي في تركيا، بفضل القوى العاملة والمؤهلة إلى جانب المعرفة والمهارات، ويعتبر ذلك أهم عامل يجذبهم للعمل هنا.
وإن التركيز على هذا البعد الهام هو أمر لا مفرّ من أجل رؤية الطرف الآخر للقضية، ودحض رواية أولئك الذين يزعمون أن السوريين عبء على الاقتصاد وعلى تركيا من جميع الجوانب. ومع ذلك فإننا حينما نشير إلى هذا الجانب المهم، يخرج علينا من يدّعون الخبرة والمدافعة عن العمل -على الرغم من أنهم لا يحرّكون ساكناً من أجل حقوق اللاجئين-، ليقولوا: “إليكم هذا الاعتراف: تركيا تستغل العمالة الرخيصة للسوريين”، محاولين بذلك تأجيج مشاعر الناس من خلال اللعب على وتر اللاجئين.
البعض الآخر يعترض بشدة على مقارنة المهاجرين السوريين والأفغان في تركيا، بالأتراك الموجودين في ألمانيا، إلا أن البعد الذي تحدثنا عنه يقرّ ذلك بوضوح. ولذلك ربما لا يدرك الجميع هذه الحقيقة، إلا أن أوجه الشبه في هذه المقارنة هي التي جذبت الأفغان في الواقع بشكل خاص إلى تركيا. ومن الممكن الاستشهاد بما كتبه “يلدراي أوغور” في إحدى مقالاته في هذا الصدد، حيث أوضح كيف ولماذا لا يمكن استبدال العمالة الماهرة التي توفرها القوى العاملة من الأفغان، لا سيما في مجالات الزراعة وتربية الحيوانات، بأي شكل من الأشكال.
ليتنا لو نتمكن من مناقشة الحقوق التي لم يتلقوها أو المعاملة الإنسانية المفترضة التي لم يحظوا بها، بما في ذلك حق العلاج وما شابه، مقابل إسهاماتهم المفتوحة. آمل أن نتمكن من ذلك.