ترامب وإعادة رسم الجغرافيا السياسية للمشرق العربي.. قراءة في رؤية الاحتلال لعام 2025

أ. أحمد الحيلة يكتب:

أوعز وزير المالية والوزير في وزارة الحرب الإسرائيلية، بتسلئيل سموتريتش، في 11 من الشهر الجاري إلى قسم إدارة المستوطنات في وزارة الدفاع، والإدارة المدنية التابعة للجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، بالبدء في إعداد البنية التحتية اللازمة للسيطرة على الضفة الغربية. وأشار سموتريتش إلى أن الوقت قد حان، في حقبة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب المتجددة، لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية بحلول عام 2025. واعتبر أن هذه الخطوة هي الطريقة الوحيدة لإزالة ما وصفه بالتهديد المتمثّل في قيام دولة فلسطينية.

في سياق متصل، صرّحت وزيرة الاستيطان أوريت ستروك، عضو حكومة بنيامين نتنياهو، بأنها تعمل بوتيرة متسارعة لإعلان السيادة الإسرائيلية على أكبر مساحة ممكنة من الضفة الغربية. كما أكدت على عدم الحاجة لوضع استراتيجية للخروج من قطاع غزة.

رؤية دولة ومؤسسات الاحتلال

هذه الرؤية الاستيطانية لكل من الضفة الغربية وقطاع غزة، القائمة على التوسّع وإعلان السيادة الإسرائيلية، ليست رؤية شخصية تخص هذا الوزير أو ذاك المسؤول في إسرائيل المحتلة أو حكومتها اليمينية المتطرفة. بل تعبّر عن سياسات وتشريعات معتمدة ومترسخة في الكيان الإسرائيلي. فقد أقرّ الكنيست الإسرائيلي قانونًا في يوليو/تموز من هذا العام برفض إقامة دولة فلسطينية، حيث صوّت لصالحه 99 نائبًا من أصل 120 عضوًا. وفي عام 2018، أقرّ الكنيست “قانون القومية اليهودية”، الذي يدعم الاستيطان ويحصر حق تقرير المصير باليهود على أرض فلسطين التاريخية، ما يعني إنكار وجود الفلسطينيين كشعب يحق له الاستقلال وتقرير المصير.

سياسة ممنهجة للاحتلال

إن احتلال الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة هو سياسة مُقَوننة منذ سنوات في إسرائيل، ويجري تنفيذها كأمر واقع. وفي قطاع غزة، تترجم هذه السياسة بالسيطرة على الحدود والمنافذ، والتمدد داخليًا عبر محاور تقطّع القطاع من الشمال إلى الجنوب، ما يؤدي إلى عزل السكان الفلسطينيين في جيوب منفصلة ودون خدمات، بعد تدمير كل مقومات الحياة. الهدف من هذه السياسات هو دفع الفلسطينيين إلى الهجرة القسرية نحو مصر أو دول أخرى، ليصبح القطاع في نهاية المطاف واحة للاستيطان الإسرائيلي بواجهات بحرية جذّابة.

احتلال الأرض وتهجير السكان

يسعى اليمين الصهيوني المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو إلى فرض السيادة الاحتلالية على كامل فلسطين التاريخية، بأقل عدد ممكن من الفلسطينيين، إن لم يكن بدونهم تمامًا. فالمشروع الصهيوني منذ بداياته قام على مقولة: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. إلا أن معضلة الكيان الإسرائيلي تكمن في التوازن الديموغرافي، إذ بات عدد الفلسطينيين داخل فلسطين التاريخية يساوي تقريبًا عدد اليهود، حيث يقدر كل منهما بحوالي 7 ملايين نسمة، دون احتساب الفلسطينيين في الشتات، الذين يصل عددهم إلى نحو 7 ملايين إضافيين. وتشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2050، سيصل عدد الفلسطينيين بين النهر والبحر إلى أكثر من 13 مليونًا، مقابل 10.6 ملايين يهودي.

قنبلة ديمغرافية

يدرك الاحتلال أن القنبلة الديمغرافية تشكّل تهديدًا وجوديًا للمشروع الصهيوني. ففي حال ضمّ الأرض مع سكانها الفلسطينيين والاعتراف بهم كمواطنين متساوين، سيفقد المشروع الصهيوني “نقاءه” كدولة يهودية. لذلك، تسعى المخططات الإسرائيلية إلى التعامل مع هذا التحدي بإحدى الطريقتين:

أولًا: التهجير القسري: دفع الفلسطينيين إلى الهجرة كما حدث منذ عام 1948، وهو ما يُنفذ حاليًا في قطاع غزة عبر سياسة الإبادة الجماعية والتجويع وتدمير البنية التحتية، لإجبار السكان على مغادرة أراضيهم. تصريحات مسؤولين إسرائيليين مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير تؤكد هذه النوايا.

    وهو الأمر ذاته الذي يُعمَل عليه في الضفة الغربية من خلال تضييق سبل العيش على الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم الزراعية، وإفقادهم الأمن عبر التمدد الاستيطاني ومضاعفة أعداد المستوطنين الذين يمارسون أبشع أنواع الانتهاكات بحق المدنيين الفلسطينيين؛ قتلًا وتدميرًا لممتلكاتهم، كما جرى لبلدة حوّارة جنوب مدينة نابلس التي أقدم المستوطنون على حرق بيوتها (30 منزلًا) وبساتينها وسيّارات مواطنيها في فبراير/ شباط 2023.

    ثانيًا: التقليل من الحقوق السياسية: في حال فشل التهجير، سيتعامل الكيان مع الفلسطينيين كأقلية عربية مقيمة، تُمنح حقوقًا مدنية محدودة ضمن حكم ذاتي بلدي، دون أي حقوق سياسية تتيح لهم المساواة مع اليهود في دولة إسرائيل.

      حكم ذاتي بدون هوية وطنية


      الاحتلال الإسرائيلي يتبنّى صيغة جديدة للتعامل مع الفلسطينيين، عبّر عنها وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش في 3 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وكرّرتها وزيرة الاستيطان أوريت ستروك في 14 من الشهر نفسه. يرى سموتريتش أن الفلسطينيين مجرّد أقلية أو جالية عربية تعيش داخل “دولة إسرائيل”، وينبغي عليهم نسيان هويتهم الوطنية، حيث لا يُعتبرون شعبًا أو قومية ذات حق في تقرير المصير. يقترح سموتريتش أن يعيش الفلسطينيون في دائرة حكم ذاتي تُدار على مستوى البلديات، يتمتعون من خلالها بحقوق مدنية “بمعايير إسرائيلية” دون أي أهلية سياسية تخوّلهم المساواة مع اليهود الإسرائيليين. بمعنى أوضح، يُحرم الفلسطينيون من عضوية الكنيست أو المشاركة في الحكم.

      وأكثر من ذلك، يوضح سموتريتش أن من يقبل بهذا النموذج يمكنه البقاء تحت السيادة الإسرائيلية، أما من يرفضه، فسيُهجّر أو يُعامل كإرهابي، بما يعني القتل.

      أسباب هذا التوجه

      ما يدفع الاحتلال إلى المجاهرة بهذا الشكل غير المسبوق بمخططاته، رغم مخالفتها للقانون الدولي، هو عدة عوامل:

      أولًا: انحياز الإدارة الأميركية السابقة التي وفّرت غطاءً سياسيًا وعسكريًا وماديًا للإبادة الجماعية في غزة. وتظل تصريحاتها بشأن إدخال مساعدات إنسانية أو دعم “حل الدولتين” مجرد محاولة للتغطية على جرائمها وجرائم الاحتلال.

      ثانيًا: قدوم إدارة أميركية جديدة برئاسة دونالد ترامب في يناير/كانون الثاني 2025، وهو الذي عبّر خلال حملته الانتخابية عن دعمه لتوسيع حدود إسرائيل الجغرافية على حساب الأراضي الفلسطينية والعربية. ترامب ليس غريبًا عن مثل هذه التوجهات، فهو صاحب “صفقة القرن” التي عرضها في يناير/كانون الثاني 2020، والتي دعت إلى ضمّ أجزاء واسعة من الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية عليها، إضافة إلى إنشاء كيان فلسطيني منزوع السيادة والسيطرة على حدوده. كما اعترف ترامب بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل وبالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل.

      ثالثًا: المواقف العربية التي ظلت تُراوح مكانها في نطاق التصريحات الإعلامية دون اتخاذ خطوات عملية للضغط على الاحتلال. الدول العربية التي أبقت على علاقاتها الطبيعية مع إسرائيل دون طرد السفراء أو وقف التبادل التجاري أو التعاون الأمني، أسهمت في تشجيع الاحتلال على المضي قدمًا في مخططاته، إذ يشعر بالأمان طالما لا يدفع أي أثمان سياسية أو دبلوماسية.

      رؤية الاحتلال وأبعادها الجيوسياسية

      لا شك أن إسرائيل تطمح إلى التوسّع جغرافيًا في المنطقة العربية، مستندة إلى مفهوم “إسرائيل الكبرى” الممتدة من النيل إلى الفرات، وهو ما يردده سياسيون ورجال دين يهود في أكثر من مناسبة. هذه الرؤية تجد دعمًا من صهاينة مسيحيين إنجيليين يعتقدون أن قيام “إسرائيل الكبرى” شرط لعودة المسيح. لتحقيق هذه الأهداف، تعتمد إسرائيل على القوة العسكرية، رغم أنها متناقضة مع التاريخ والبعد الحضاري لشعوب المنطقة.

      الأبعاد الأيديولوجية التي يستند إليها الاحتلال، بغض النظر عن صحتها، تبقى دافعًا قويًا لمن يؤمن بها، خاصة إذا امتلك القوة المادية لتحقيقها. إسرائيل، المدعومة من الولايات المتحدة، ليست استثناءً، حيث تجد في الدعم الأميركي غطاءً لتنفيذ مخططاتها.

      تصريحات مقلقة ومخططات كبرى

      حديث بنيامين نتنياهو عن “حرب القيامة” أو “حرب الاستقلال الثانية”، وتصريحات ترامب بشأن حاجة إسرائيل إلى “عمق جغرافي” لتوسيع حدودها، تشير إلى أن إسرائيل وأميركا قد تكونان عازمتين على إعادة رسم الجغرافيا السياسية للمشرق العربي. هذا السيناريو يتضمن ضمّ الضفة الغربية والقدس وغزة، وربما يمتد إلى احتلال أجزاء من لبنان وسوريا والأردن تحت ذرائع “تأمين حدود إسرائيل” وتحقيق “النبوءات التلمودية”.

      Exit mobile version