تواصل الليرة التركية تراجعها أمام الدولار، منذ ما يقارب الشهر، حيث وصلت، ظهر الثلاثاء، إلى 12.5 ليرة للدولار الواحد، في مستوى قياسي له.
يأتي ذلك مع تأكيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رفضه القاطع لرفع أسعار الفائدة في بلاده، ومؤكداً على مواصلته مكافحة ذلك، واصفاً ما تشهده بلاده هذه الأيام من خفض لأسعار الفائدة يقابها انخفاض حاد في قيمة العملية المحلية، بـ “حرب الاستقلال الاقتصادي”.
وفي هذا الإطار، رصد تقرير لـ “الجزيرة نت” تداعيات انخفاض الليرة التركية على الاقتصاد والسياسة، والرابحون والخاسرون في هذا المشهد.
وأشار التقرير إلى أن لخفض سعر العملة المحلية سلبيات، فقد تحقق له إيجابيات في تركيا، ولكن لا يعني ذلك أن انخفاض سعر الليرة مرحب به دائما وعند أي معدلات.
فقد أدى انخفاض قيمة الليرة التركية إلى رفع معدل التضخم ليقترب من سقف 20%، وزادت الأعباء المعيشية على المواطنين، سواء بالنسبة لأسعار السلع والخدمات، أو إيجار المنازل، كما ساعدت بشكل كبير على انتشار ظاهرة الدولرة داخل المجتمع التركي.
وعلى الجانب الآخر، حقق الاقتصاد التركي بعض الإيجابيات من انخفاض سعر الليرة، على رأسها زيادة الصادرات السلعية، وما كان ذلك ليتحقق لولا وجود قاعدة إنتاجية قوية اقتنصت الفرصة، فوصلت قيمة الصادرات السلعية 169.5 مليار دولار بنهاية 2020، على الرغم من التداعيات السلبية لجائحة كورونا، وتستهدف تركيا تجاوز صادراتها السلعية حاجز الـ200 مليار دولار بنهاية 2021.
كما نشط قطاع السياحة في تركيا في ظل تراجع قيمة العملة التركية، فالإحصاءات الرسمية تشير إلى أن عدد السائحين خلال الفترة من يناير/كانون الثاني وأغسطس/آب 2021 بلغ 14.1 مليون سائح، وبما يمثل زيادة قدرها 93% عن الفترة المناظرة من عام 2020، وبلا شك أن انخفاض قيمة الليرة سوف يزيد من حركة السياحة في تركيا، والتي تعد من الأنشطة المهمة للاقتصاد القومي.
لا يوجد عامل واحد حاسم لتفسير الظواهر الاقتصادية إيجابا وسلبا، فإذا كان الرئيس أردوغان يرى أضرارا لارتفاع سعر الفائدة على اقتصاد بلاده، وأنه من صالح الاستثمار والتوظيف خفض سعر الفائدة، فعلى صانعي السياسة الاقتصادية ببلاده، أن يعدوا الحزمة اللازمة لنجاح هذه الرؤية، من خلال:
– تقليل فاتورة الواردات.
– الاعتماد بنسب كبيرة على الموارد ومستلزمات الإنتاج المحلية.
– الحد من تدفق الأموال الساخنة من الخارج.
– ترشيد اقتراض القطاع الخاص، بما يتناسب مع قدراته التمويلية ونشاطه الاقتصادي.
ومن المهم كذلك أن تعمل السياسة الاقتصادية على توفير فرص للاستثمار، يمكنها استيعاب الأموال المتاحة في السوق، لمنعها من التوجه للمضاربات بالبورصة أو على سعر العملة، أو في الأنشطة المتعلقة بالعملات المشفرة أو الفوركس وأشباهها.
وفيما يتعلق بمظاهر الحضور السياسي لأزمة الليرة في تركيا، ذكر تقرير “الجزيرة نت” أن الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة، وثمة علاقة لا يمكن إهمالها في قراءة واقع تراجع قيمة العملة التركية، وارتباطها بالأداء السياسي الداخلي والخارجي لحكومة العدالة والتنمية، والرئيس أردوغان.
فالجميع يعلم تحركات الجيش التركي في سوريا والعراق لمواجهة مشروع الدولة الكردية، وما يحمله من تهديدات للأمن القومي التركي، وكذلك الموقف القيمي لتركيا في مناصرة ثورات الربيع العربي، ورفض مشاريع الثورات المضادة، وداعميها في دول المنطقة، وكذلك موقف تركيا في الأزمة الخليجية.
وكذلك موقف تركيا من مخطط شرق المتوسط، ومحاولة تهميشها هي وقبرص التركية، بعيدا عن ثروة الغاز الطبيعي، وحرص تركيا على توازن في علاقاتها الخارجية، وكونها قوة إقليمية لا يجب تجاهلها من قبل القوى الدولية.
وثمة عوامل محلية تمثلت في محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في عام 2016، وما تبع ذلك من محاولات زعزعة الاقتصاد التركية، كمدخل لإسقاط التجربة الديمقراطية، وكذلك محاربة إستراتيجية حزب العدالة والتنمية في اتساع قاعدة توزيع الثروة، وعدم تركزها في يد مجموعة صغيرة من الشركات القابضة.
ماذا فعل انخفاض قيمة الليرة في الاقتصاد التركي؟
يعتبر أبرز نجاحات حزب العدالة والتنمية اقتصاديا، بعد عام 2003، أنه أزال الأصفار الستة من العملة المحلية، ورفع من قيمتها أمام الدولار، فبعد أن كان الدولار يعادل ملايين الليرات، أصبح في عام 2005 الدولار يعادل 1.34 ليرة.
وفي ضوء أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، نجد أن الناتج المحلي الإجمالي لتركيا في عام 2013، وصل إلى 1.8 تريليون ليرة، وبما يعادل 957 مليار دولار، أي أنه كان يقترب من سقف تريليون دولار كقيمة للناتج المحلي.
ولكن بعد تراجع قيمة العملة التركية على مدار السنوات الماضية، تراجعت قيمة الناتج مقوما بالدولار، على الرغم من زيادتها بالعملة المحلية.
ففي عام 2020 بلغت قيمة الناتج بالعملة المحلية 5.05 تريليونات ليرة، بينما كانت القيمة بالدولار 720 مليار دولار.
ولذلك فالأمر يتطلب معالجة شاملة، وليس معالجة طرف أو متغير، على حساب باقي المتغيرات، التي يكون لها تأثيرها السلبي على جوانب أخرى.
فمطلوب تشجيع وتحفيز الاستثمار وفي نفس الوقت الحفاظ على قيم معتدلة للعملة المحلية تجاه العملات الأجنبية، وكما هو مطلوب بقاء القاعدة الإنتاجية التركية حية وقوية، والعمل على زيادة القيمة المضافة للأنشطة الاقتصادية المختلفة، فإنه ينبغي ألا يؤدي ذلك إلى إهمال المؤشرات المالية والنقدية، من أداء سعر الصرف، ومعدل التضخم، وعجز الموازنة.
من الرابحون من انخفاض سعر الليرة؟
العبرة في تقويم أداء الاقتصاد القومي لأي بلد هي المنفعة العامة، والمصلحة التي تفيد القاعدة العريضة من المجتمع، ولكن في ضوء الواقع المعيش، فإن الليرة التركية تراجعت لأدنى المعدلات منذ عام 2013، وبالتالي فإن هناك من يستفيد من هذا الوضع، وهناك أيضا متضررون.
الرابحون من هذا الوضع في المقام الأول المضاربون على سعر العملة، والذين يراقبون السوق منذ فترة، ويعملون على الاحتفاظ بقدر كبير من العملات الأجنبية لبيعها في هذا التوقيت، وأيضا هناك منافع تعود على قطاع السياحة، وقطاعات الأنشطة التصديرية.
أما المتضررون، فهم المدخرون، الذين احتفظوا بمدخراتهم بالعملة المحلية خلال الفترة الماضية، حيث انخفضت القدرة الشرائية لمدخراتهم، وتراجع قيمة ما لديهم من ثروة، لذلك فهذه الشريحة تفضل رفع سعر الفائدة، ليعوضهم عن هذه الخسائر.
أيضا من المتضررين، المستوردون الذين تعتمد تجارتهم أو أنشطتهم الإنتاجية على الاستيراد من الخارج، ففاتورة واردتهم سترتفع في ظل تراجع الليرة، وكذلك المديونون بالعملة الأجنبية سواء لجهات محلية أو دولية، فتدبير التزاماتهم بالعملة الأجنبية سيكلفهم الكثير في ظل انخفاض قيمة الليرة.