حرب الفرقان.. الحرب المستمرة إلى اليوم

مأمون أبو جراد

لا يمكن فهم التغيرات والتطوّرات التي مرّ بها  قطاعُ غزّة خلال العشرين عاماً الماضية دون مقاربة سياسة “إسرائيل” في مواجهة تصاعد الفعل المقاوم في غزّة، والمستندة على ثنائيتي “الحرب والحصار”، فإذا كان الحصار هو الجرح الذي أحدثَتْهُ “إسرائيل” في جسم القطاع، فإنّ الحرب هي الملح الذي يُفاقِمُ الألمَ ويُضَاعِفَه. 

في ذكراها الثانية عشر، يسعى هذا المقالُ إلى تناول حرب الفرقان التي بدأت 27 ديسمبر/ كانون الأول 2008، وامتدّت حتى 18 يناير/ كانون الثاني 2009، وشكّلت نقطةَ تحوّلٍ في مسار تطوّر الأحداث في غزّة وطريقة تعامل جيش الاحتلال معها.

الطريق إلى معركة الفرقان

مكّن انسحابُ الاحتلالِ الإسرائيليّ وتفكيكُ آخر أوتادهِ الاستيطانيّة في قطاع غزّة المقاومةَ الفلسطينيّةَ من تطوير “هيكلٍ تنظيميٍّ” مركزيّ مُنتشرٍ على شكل ألويةٍ وكتائب في مختلف مناطق القطاع، وذلك بعد أن كان نموذجُ الخلايا والخطوط المحليّة سائداً خلال السّنوات السّابقة.1 نتيجةً لذلك، زاد عناصرُ المقاومة بعد تفكيكِ الحواجز الإسرائيليّة، وتراجُعِ خطر الاعتقال وازدياد قدرتِها على الاستقطاب والتعبئة بفعل تطور بناها التنظيميّة. وبالتوازي مع ذلك شهدت القدراتُ الصّاروخيّةُ للمقاومة تطوراً مَـكّـنَها من الضّغط على مواقع الاحتلال في منطقة غلاف غزّة.

ردّ الاحتلال الإسرائيليّ على هذه التغيرات عبر تشديد الحصار على القطاع، والذي ازداد حدّةً مع سيطرة حركة “حماس” وتصنيف القطاع إسرائيلياً كـ”كيانٍ معادي“. بدورها بدأت المقاومة الفلسطينيّة في الضغط على طرفيّ الحدود مع غزّة كمحاولة للتخفيف من الحصار؛ جنوباً مع مصر عبر اختراق الجدار الحدوديّ وبناء شبكة الأنفاق لتأمين ما يحتاجه القطاع، وشمالاً وشرقاً مع دولة الاحتلال عبر تكثيف عمليات إطلاق الصواريخ باتجاه المواقع الإسرائيليّة. 

وفي يونيو/حزيران 2008 وافقت الفصائلُ الفلسطينيّة على التهدئة برعايةٍ مصريّةٍ، تلتزمُ بموجبها بوقفِ إطلاق الصّواريخ مقابل تخفيف الحصار عن قطاع غزّة، وهو ما تنصَّل منه الاحتلالُ لتنهار التهدئة في أوائل ديسمبر/ كانون الأول 2008. في حينه بدأ الاحتلالُ كعادته في عملية تضليل واسعة للمقاومة، فمثلاً سرّب معلوماتٍ مغلوطةً عبر وسطاء إقليميين برغبته في عودة الهدوء إلى غزّة، تعزّزت بفتحِ المعابر التجاريّة قبل بدء العملية بيومٍ واحد.

بدأ العدوان الذي أطلق عليه الاحتلالُ اسم “عملية الرصاص المصبوب” يوم السبت الساعة الحادية عشر صباحاً، وقد اختار جيشُ الاحتلال ذلك التوقيت إمعاناً في التضليل ورغبةً في القتل المكثف، إذ تُشكّل تلك السّاعةُ الذروةَ في العمل الحكوميّ. وهكذا نفّذت ما يقارب 80 طائرة عسكرية إسرائيلية غارات جويّة على مواقع للمقاومة ومقرات رسمّية للأجهزة الأمنيّة، أسفرت عن ارتقاء ما يقارب من مئتي شهيد وإصابة مئات الجرحى.

مرّت العملية بثلاث مراحل أساسيّة. امتدّت الأولى من 27  ديسمبر/كانون الأول 2008 حتى 3 يناير/كانون الثاني 2009، وتركّزت على عمليات القصف الجويّ والمدفعيّ. وبدأت المرحلةُ الثانية ليلة 3 يناير/ كانون الثاني بالإعلان عن العملية البريّة، وتركّزت على تطويق القسم الشماليّ من القطاع، فتوغل لواءُ المظلّيين شمال غرب مدينة غزّة، وتقدّم لواء جولاني شمال شرق المدينة، وتركزت عمليات اللواء 401 المدرع جنوب مدينة غزة، فيما نشط لواء جفعاتي جنوب قطاع غزّة. أما المرحلة الثالثة من عمليات جيش الاحتلال فبدأت في 7  يناير/ كانون الثاني، وحاول فيها جيشُ الاحتلال التوغل في المناطق الحضريّة بصورةٍ أكبر. لكن خشيته من تكبد خسائر كبيرة دفعته للتراجع والاكتفاء بالعمل عبر سلاح الجوّ، وذلك حتى الانسحاب من غزّة وإعلان وقف إطلاق النّار من طرفٍ واحدٍ في 17 يناير/ كانون الثاني.2

من الاجتياح إلى الحرب: تطوّر عمليات الاحتلال في غزّة

تركّزت عملياتُ جيش الاحتلال في سنوات الانتفاضة الثانيّة تجاه الضفّة الغربيّة. وبحلول عام 2003 بدأ الاحتلال بالتركيز أكثر تجاه تصاعد النشاط المقاوم في قطاع غزّة، فشنّ ما بين 2003 إلى نهاية 2008  ما يقارب 23 عمليةً عسكريّة.3 من بين هذه العمليات 12 عملية قامت بها “إسرائيل” قبل الانسحاب من القطاع، ووجّهتها نحو تحقيق ثلاثة أهداف: إضعاف بنية المقاومة الفلسطينيّة، والحدُّ من إطلاق الصواريخ تجاه المستوطنات، وأخيراً تهيئة الأوضاع الميدانيّة للانسحاب. و11 عملية عسكريّة أخرى سعت من خلالها إلى استعادة الجنديّ الإسرائيليّ المأسور جلعاد شاليط أو إلى التعامل مع تزايد إطلاق الصّواريخ تجاه مستوطنات الغلاف.4

استخدم الفلسطينيّون مصطلحات كـ”الاجتياح”، و”التوغل”، و”التصعيد” لوصف عمليات جيش الاحتلال السّابقة والتي اتسمّت باقتصارها على مدن ومناطق محدّدة، وذلك على خلاف مصطلح “الحرب” الجديد والخاصّ بوصف عمليات جيش الاحتلال التي تشمل كافة مناطق القطاع، بحجم قواتٍ أكثر ودمار أكبر. فخلال حرب الفرقان حشدت قوات الاحتلال للحرب البريّة ما يقارب 30 ألف جنديّ، واستدعت قوات الاحتياط إلى جوار القوات البحريّة والجويّة التي شاركت بفعالية في الحرب. أما العمليات السابقة فشهدت مشاركة قواتٍ أقلّ واستخدام أسلحة أقلّ فتكاً.

تميّزت حرب الفرقان بمجموعة من المظاهر المرافقة لها كامتناع الناس عن الخروج من بيوتهم بعد غروب الشّمس، وإقامة جنائز الشُّهداء على عجلٍ وبِمَن حَضَرَ دون تقاليدها المهيبة، وعدم إقامة بيوت العزاء وتأجيلها لما بعد الحرب. كما اختبر سكّانُ القطاع للمرة الأولى فكرةَ النزوح، بعد نزوح سكان المناطق التي توغل فيها جيش الاحتلال بريّاً، إلى مدارس وكالة الغوث التي تحوّلت إلى مراكز للإيواء.

الضاحية في غزة: القتل على شيك مفتوح

قبل الحرب على غزّة بعامين، وعلى مدار 34 يوماً من القتال في جنوب لبنان فشل جيش الاحتلال بمختلف تشكيلاته في وقف تمدد بقعة صواريخ المقاومة واستعادة جنوده الأسرى. حصل ذلك وسط خسائر متصاعدة في الأرواح والممتلكات، دفعته لوقف إطلاق النار وتشكيل لجان تحقيق في أسباب الهزيمة، التي تركزت على عجز سلاح الجو وحده عن حسم المعركة وعدم جاهزية القوات البريّة. وفي هذا السياق نظّر قائد شعبة العمليات خلال الحرب ورئيس الأركان لاحقاً غادي ايزنكوت لتوجهٍ جديدٍ عُرِفَ بـ”نهج الضاحية” المستمد من تدمير سلاح الجوّ الإسرائيليّ للضاحية الجنوبيّة في بيروت خلال الحرب. ويسعى النهج الجديد للضغط على قوى المقاومة من بوابة تدفيع حواضنها الشعبيّة ثمن المواجهة، خاصّةً في ظلّ صعوبة القضاء على تشكيلاتها المنتشرة في الميدان.

انعكست آثار هزيمة حرب تموز 2006 على سلوك جيش الاحتلال وعملياته في حرب الفرقان، من خلال تبني “نهج الضاحية” في فرض قواعد جديدة للاشتباك مع قوى المقاومة في قطاع غزّة، تقوم على الإسراف بشكلٍ كبيرٍ في عمليات القتل والتدمير، وتحديداً في صفوف المدنيين ومنشآتهم. وصلت إلى قصف مراكز تابعة للأمم المتحدة ومخصصة لإيواء اللاجئين (كمدرسة الفاخورة مثلاً)، بأسلحة محرمة دولياً، ليرتقي خلال 22 يوماً من العدوان ما يقارب 1500 شهيد، ويدمر ما يقارب 4100 مسكن.5 ووفقاً لبعض التقديرات فقد استخدم جيش الاحتلال خلال هذه الحرب نحو 1.5 مليون طن من المواد المتفجرة، أي بمعدل طن متفجرات لكل شخص في غزة. 

اقرؤوا المزيد: “مقذوفات النّار والبارود.. في معنى “لنهدينهم سُبلنا”.”

بالإضافة إلى ذلك، اختبر جيش الاحتلال خلال هذه الحرب جاهزيةَ ألويته المُقاتِلة عبر زجّها في مناورةٍ بريّةٍ مضمونةِ المخاطر – تشمل تجنب التوغل في مناطق ذات كثافة سكانيّة عالية- بقصد إعادة الاعتبار للذراع البريّ الذي تعرّض للإهمال تحت قيادة رئيس الأركان السابق دان حالوتس.6 وأخيراً شكّلت معركة غزّة فرصةً لرفع ثقة بعض الوحدات المقاتلة كحال اللواء 401 المُدرع الذي تعرّض لضرباتٍ قويةٍ في حرب لبنان الثانية، إذ نَقَله الجيشُ إلى الجبهة الجنوبيّة مع غزّة حيث شارك بفعالية في معارك حرب الفرقان.

المقاومة الفلسطينيّة بعد حرب الفرقان

شكّلت حربُ الفرقان نقطةَ تحوّلٍ في تطوّر المقاومة الفلسطينيّة، التي وجدت نفسها أمام حربٍ شاملةٍ تختلف عما كانت معتادةً عليه من عملياتٍ محدودةٍ زمنيّاً ومكانيّاً وقوات مشاركة أقلّ. فَرَضَ التحدي الجديد على المقاومة تبني استراتيجية قائمة على “مراكمة القوّة” عبر تطوير ثلاثة مسارات أساسيّة. تعلق المسارُ الأول بالقوّة الصاروخيّة، فبالرغم من تمكن المقاومة في حرب الفرقان من قصف أهدافٍ لجيش الاحتلال في نطاق 40 كيلومتراً، إلا أنّها ظلّت عاجزةً عن الوصول إلى مواقع في عمق دولة الاحتلال، ما دفعها فور انتهاء الحرب للبدء في مشروع تطوير قدراتها الصاروخيّة بالاعتماد على التصنيع الذاتيّ والصواريخ والتقنيات المأخوذة من إيران وسوريا. بفعل هذه الجهود ظهر المدى الذي وصلت إليه القوة الصاروخية للمقاومة في معركة حجارة السجيل 2012 إذ تمكّنت فيها من قصف مدينة تل أبيب (70 كيلومتراً)، وحرب 2014 التي تمكّنت فيها من قصف مدينة حيفا ( 150 كيلومتراً).

شرطي إسرائيلي يتفقد آثار صواريخ فلسطينيّة أطلقت من قطاع غزّة باتجاه المستوطنات الإسرائيلية خلال حرب الفرقان.

أما المسار الثاني، فاتجه نحو تطوير البنية التحتيّة للعمل المقاوم في غزّة، عبر بناء مجموعةٍ من مواقع التدريب ومراكز القيادة وشبكات الاتصال. والأهمّ، اتجه جزءٌ من هذا المسار نحو بناء شبكة الأنفاق التي استخدمتْها المقاومةُ سابقاً في عمليات تهريب السّلاح من مصر وتوظيفها في استهداف مواقع الاحتلال أو تحريك المقاتلين داخل القطاع. واتجه المسار الثالث نحو رفع كفاءة وجاهزيّة عناصر المقاومة، بإرسال بعثاتٍ عسكريّة لتلقي التدريب في الخارج، وجلب أسلحة جديدة قادرة على إحداث فارقٍ ميدانيّ كالصواريخ المضادّة للدروع والطائرات. هذا بالإضافة إلى بناء قواتٍ ذات طابعٍ تخصصيٍّ ومُحترف، كقوات النُخبة التي شاركت بفعالية في الدفاع عن قطاع غزّة خلال حرب العصف المأكول، وقوّات الكوماندوز البحريّ التي نفّذت أولى عملياتها على شواطئ زكيم عام 2014.  

غزة ما بعد الحرب

أنتجت الحربُ عدداً من التغيرات والمسارات السياسيّة التي شكّلت صورةَ واتجاهَ تطوّر الأحداث في قطاع غزّة خاصةً وفلسطين عامةً. ساهمت الحرب في إعادة الزخم للقضية الفلسطينيّة من بوابة “التضامن مع غزّة” وذلك بعد سنواتٍ من الاقتتال والخلافات الداخليّة التي أضرّت بصورة ومكانة القضية الفلسطينية دوليّاً وإقليميّاً. وفي موازاة ذلك ازدادت حركة التضامن العالميّ مع قطاع غزّة، ونتج عنها تخفيف الحصار المفروض على القطاع من جهة مصر، مدفوعاً بالسياسة المصريّة التي غضت الطرف عن شبكة الأنفاق مع سيناء، بالرغم من الضغوط الأميركية والإسرائيلية لهدمها وبناء جدار أرضيٍّ عازل.

على الرغم من مرور 12 عاماً على حرب غزّة الأولى إلا أن آثارها ما زالت قائمة ومؤثرة في حياة سكانها ومعاشهم، وفي ظل غياب أيّ نيةٍ لعملية إعادة الإعمار وتحولها إلى ورقة ابتزاز لأهالي القطاع، فمن الصعب تناول الحرب كحدث مستقل بذاته، بقدر ما هو بداية لصيرورة من العنف والتدمير والحصار الممنهج لقطاع غزّة ومقاومته من جهة، وتصاعد واستمرار لصيرورة مراكمة القوة الفلسطينيّة وتعزيز أبعادها المختلفة عسكرياً وأمنيّاً.

Exit mobile version