حركة محظورة من الاحتلال الإسرائيلي في الضفّة الغربية والقدس، يُلاحَق عناصرها بالاعتقال والمنع من السفر ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، وهي محاصرة في قطاع غزّة، والحكومة التي تديرها في القطاع غير معترف بها إقليميّاً ودوليّاً، ولم تزل الحروب تُشنّ عليها منذ العام 2006، وهي مقابل ذلك تواجِه العدوان المستمرّ بالسلاح، والصدّ العنيف، والتدبير العسكري والأمني. حركة هذا شأنها يزعم بعضهم أنّها كبقية الحكومات العربية!
لا يمكن لأحد المساواة بين حماس وحكومتها في قطاع غزّة وبين الحكومات العربية، إلا بالتجرّد التامّ من العقل والأخلاق معاً، وهو أمر لا ينفي وقوع الحركة في أخطاء في مستويات متعددة، سواء في أطرها التنظيمية، أو في إدارتها الحكومية، أو في سياساتها التكتيكية والإستراتيجية، فردّ البهتان عن الحركة لا يستلزم رفض نقدها، أو تصوّر عصمتها، ولكن العقول التي تساوي بينها وبين الحكومات العربية، مع جلاء الفرق، لن تمتنع عن اقتراف مغالطة مكشوفة كهذه، تزعم بها أنّ أيّ دفاع عن الحركة هو رفض لنقدها وتصوّر لعصمتها!
والحاصل أنّ الخصومة لما كانت مظنة التحامل والظلم، دعا القرآن للعدل مع الخصم، فلا تنافي بين وقوع الخصومة وبين العدل مع الخصم، ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كونوا قَوّامينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالقِسطِ وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلى أَلّا تَعدِلُوا اعدِلوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبيرٌ بِما تَعمَلونَ﴾، ولمّا كانت القرابة بكل درجاتها، مظنة المحاباة وجّه القرآن إلى ضرورة الشهادة بالحقّ ولو على النفس، ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كونوا قَوّامينَ بِالقِسطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَو عَلى أَنفُسِكُم أَوِ الوالِدَينِ وَالأَقرَبينَ..﴾.
والتذكير بالبدهيات شاقّ على النفس، خاصّة، مثل هذه البدهيات إن ذُكّر بها منتسبون للعمل الإسلامي، أو حملة شهادات عليا في الشريعة، كذلك الدكتور الكويتي الذي يعيش في تركيا، في حدود علمي، مستفيداً من حكم أردوغان، متجنّياً على حماس بتهم قد تنطبق على بعض من يدافع عنهم ويروّج لهم، ولكن البدهيات قد تنطمس في غمرة التحامل والتمركز حول الذات!
من الواضح أن منطلق التحامل على حماس، هو تطويرها للعلاقة مع إيران، في السنوات الأخيرة، بعدما تعرضت هذه العلاقة لهزّة قويّة، جرّاء انحياز الحركة عن النظام السوري، وخروجها من سوريا، وإظهارها تعبيرات معارضة لسياسات النظام تجاه ثورة الشعب السوري، وإن كان البعض قد تكون له أسباب غضب شخصي لاعتقاده أن حماس لا توليه اهتماماً يتفق وتقديره المفرط لنفسه!
الحديث عن علاقة حماس بإيران له مستويان، الأول، مبدأ العلاقة، وهو مرفوض عند بعضهم لأسباب طائفية، وهو صريح في ذلك، وعند بعض آخر، بذريعة سياسات إيران في المنطقة العربية من بعد الثورات العربية، وفي حين يتسلح البعض الأول بالسياسات الظاهرة لإيران دليلاً على صحة موقفه الطائفي، فإنّ كثيراً في البعض الثاني يغطي فيه كامناً طائفيّاً خجولاً بسياسات إيران تلك.
أمّا المستوى الثاني، فهو النقمة على تصريحات وتعبيرات يبديها بعض من قيادات حماس، أو تظهر في قطاع غزّة وقد لا تكون حماس مسؤولة عنها. ثمة من يقول إنّه متفهم لدواعي حماس للعلاقة مع إيران، في ظلّ ظرف عربيّ متردّ ومعاد للحركة، لكنه لا يمكنه تفهم المبالغة في تلك التعبيرات، بما يمسّ مشاعر الملايين من الشعوب العربية المتضرّرة من السياسات الإيرانية، وهذا البعض محقّ.
ليست المشكلة في اتخاذ موقف من علاقة حماس بإيران، سواء لأسباب مبدئية أم لأسباب متعلقة بطريقة إدارة حماس لهذه العلاقة إعلاميّاً. فهذا الاختلاف طبيعي، حتى لو بدا لأنصار حماس أنّ دواعي الحركة في توثيق هذه العلاقة مقبولة، بل وضرورية في بعض جوانبها، فإنّ الناس يختلفون في مستويات الرؤية، وزوايا النظر، وطرائق التفكير، والقدرة على ملاحظة التعقيد في الواقع. وهنا إمّا أنْ يُدار حوار مع من يصلح الحوار معهم، أو أن تُعرِض الحركة وأنصارها عمن لا يصلح الحوار معهم، ماضية في ما تظنّه صواباً.
ولكن المشكلة في قصر النظر على الحركة من نافذة علاقتها بإيران فحسب، وكأنه لا اشتغال للحركة ولا قضية لها سوى هذه العلاقة، وكأنها لو أساءت في هذه العلاقة؛ فقد أساءت في كل شيء، فبات بعضهم ينفي حتى مقاومتها، ويساويها بالحكومات العربية، ويتنكر لكل ما خاضته وتخوضه من حروب ومعارك، وأسر جنود، وصفقات تبادل أسرى، فقط لأنّه ساخط على علاقتها بإيران، وهذا كلّه خلل عقلي ونفسي وشرعي.
وصل الأمر ببعضهم أن يُقيّم مسيرة الحركة منذ عشرين سنة، بأثر رجعي من لحظة علاقات حماس الأخيرة بإيران، وهذا البعض يبلغ به التناقض مبلغاً يجعل فيه حماس مرّة مسؤولة عن الانقسام الفلسطيني، ومرّة جزءاً من سلطة حركة فتح، ومرّة يجعل سلطة فتح خيراً منها، ومرّة يزعم أن حماس قد تغيرت بعد استشهاد قادتها المؤسسين، ومرة منذ عشرين عاماً، أي قبل استشهاد قادتها المؤسسين (علماً بأنّ حماس أسست لعلاقاتها بإيران في عهد قادتها المؤسسين)، ومرة يهاجم الحركة لأنها دخلت السلطة، ومرة يهاجمها لأنها ما تزال تحكم بلا انتخابات، بالرغم من أنه لا يمكن لها أن تجري انتخابات إلا بالاتفاق مع السلطة!
هذه التناقضات كلّها صادرة عن شخص واحد، منتسب للعلم الشرعي، يحرّض الخليجيين على حماس، زاعماً أنّها ستقف مع إيران لو استهدفت الخليج، كما وقفت معها في العراق وسوريا. ولا شكّ أنّ هذه كذبة فاحشة، فالحركة لم تقف مع إيران في سياساتها في سوريا والعراق، ومديحها لسليماني محصور في دوره في دعم المقاومة الفلسطينية، ولا يلزم، عند الأسوياء، من هذه تلك!
لست في صدد تفكيك تناقضاته وكشف أكاذيبه، لقلّة أهمّيته الشخصية، ولكن كون تناقضاته، وأكاذيبه تصلح نموذجاً على التحامل الذي تعانيه حماس، ومجافاة بعضهم للعدل، وفجوره في الخصومة، واستسلامه لمشاعر شخصية غاضبة.. حَسُن أن نقف عند بعضها، ولما فيها فيها من الدلالة على التجرد من المصداقية، وإلا فإنني ممن ينتقد مراراً تعبيرات حماس حول علاقاتها بإيران، وممن يعلنون مخالفتهم لبعض اختيارات الحركة السياسية، ومن على منابر حماس الإعلامية!
سكوت بعضهم عن جرائم دول أخرى سوى إيران، تسحق الناس بطائراتها ومؤامرتها، وعدم اهتمامه لوجود علاقات لحماس بها حين وجودها، وترويج بعضهم لشخصيات وأحزاب ودول تتمتع بعلاقات تتفوق على علاقات حماس بإيران، بالرغم من سعة خياراتها بالنسبة لحركة محاصرة، دليل كاف على الاهتراء الأخلاقي لذلك البعض، الذي يستهدف حركة لا يصيبه ضرر، لا من نقدها ولا من نصحها، وهو مطلوب، بل ولا من هجوم كاسح عليها يستهدف كلّ فضيلة لها.