خطة تركيا الاقتصادية في مواجهة التحديات العالمية
أحمد ذكر الله
أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان في سبتمبر/أيلول الماضي الخطة الاقتصادية الجديدة للدولة التركية للسنوات الثلاث المقبلة، والتي أعدّتها وزارة الخزانة والمالية التركية.
وتعد الخطة برنامجا متوسط الأجل يشمل السياسات الاقتصادية الأساسية والمبادئ الشاملة والمقاييس الاقتصادية التفصيلية، بالإضافة إلى توقّعات الإيرادات والنفقات الإجمالية للسنوات الثلاث القادمة، علاوة على رصيد الميزانية المتوقّع وحالة الاقتراض وسقف اقتراح المدفوعات للإدارات العامة.
ووضعت الخطة لنفسها أهدافاً طموحة تتلخص في خلق هيكل نمو مستقر ومتوازن يساهم في إيجاد فرص العمل وتقليص أعداد العاطلين، وتخفيض عجز الميزانَين الجاري والتجاري، بالإضافة إلى استهداف التخفيض التدريجي لمعدلات التضخم حتى يبلغ رقما واحدا فقط بدلا من رقمين حاليا.
وأوجبت الخطة على نفسها اعتبار التحوّل الأخضر، و مراعاة عدالة التوزيع، والتخفيض التدريجي لعجز الموازنة العامة للدولة، علاوة على زيادة الإفصاح والشفافية والحوكمة، كمتطلبات رئيسة لترسيخ الثقة في الاقتصاد الكلّي، وتهيئة الأجواء الملائمة لنمو وتعدّد الشركات والحفاظ على رؤوس الأموال الوطنية، وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية والمحلية، وتحقيق التنمية المستدامة، بالإضافة إلى تعزيز القدرات التنافسية للقطاع الخاص.
يعد الاقتصاد التركي أحد أكبر الاقتصادات العشرين في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي السنوي -أي إجمالي السلع والخدمات المنتجة في البلاد خلال عام واحد- وبشكل طبيعي فإن جزءاً كبيراً من هذه السلع يجري تصديره إلى الخارج إضافة لما يجري استهلاكه في السوق التركية نفسها.
ويواكب إطلاق هذه الخطة انتعاش ملموس للاقتصاد التركي، ظهرت ملامحه في تعافي النمو الاقتصادي، والذي أوشك أن يُكمل 10% بنهاية العام وفقاً لكثير من التقارير الصادرة عن المؤسسات الدولية المتخصصة، علاوة على قفزة كبيرة في الصادرات والتي ازدادت من 168 مليار دولار عام 2020 إلى توقعات بقيمة 211 مليار دولار في العام الحالي، الأمر الذي يُشير إلى تعافٍ حقيقي لقطاعات الاقتصاد الكلي، ونجاح السياسات الحكومية المختلفة التي أُطلقت لتلافي الآثار السلبية للإغلاق الناتجة عن جائحة كورونا.
ورغم الأرقام المتفائلة التي بثتها الخطة وأسهبت في تفصيلها، وتفصيل الوسائل التي سوف تستخدم للوصول إليها، ورغم حالة الانتعاش الحقيقي التي يمرّ بها الاقتصاد التركي، إلا أنّ ثنائيات سعر صرف الليرة ومعدلات التضخم المتزايدة شككت في هذه النجاحات، خاصة في ظل شكوى المواطن التركي جراء الارتفاعات المستمرة للأسعار، والتي تزامنت مع قفزات محمومة وغير مبررة في أسعار إيجارات المنازل السكنية، مما خلق مناخاً للتساؤل حول إمكانية نجاح هذه الخطة في تحقيق أهدافها.
بداية، يجب القول إن الاقتصاد التركي تحول خلال السنوات العشرين الماضية إلى نمر اقتصادي كبير، يمتلك كافة الإمكانات اللازمة للوصول إلى مقعد من بين الاقتصادات العشر الكبرى في العالم، ولكنه في نفس الوقت لا يزال يعاني بعض المشاكل التي يجب التعاطي معها بجدية وبصورة غير تقليدية لكي يستطيع مواجهتها، ليس فقط لكي يحقق أهداف الخطة، ولكن أيضا لكي يضمن استمرارية الصعود والمنافسة في ظل مناخ عالمي شديد الحساسية ضد القوى الناهضة، وبالأخص النهوض التركي.
ومن بين أهم المشكلات التي يفتقدها الاقتصاد التركي، إنتاج ونشر التكنولوجيا بين الصناعات التركية، فما زالت الصناعة التركية تستسهل استيراد مدخلاتها الوسيطة، وما زالت الصادرات التركية يمكن وصفها بالثقيلة، بمعنى عدم إنتاجها المنتجات كثيفة التكنولوجيا المتقدمة، والتي تتميز بخفة وزنها وغلاء سعرها.
يتطلب إنتاج التكنولوجيا ونشرها خططاً منفصلة متوسطة وطويلة الأجل تتبناها الدولة، تبدأ بتأهيل الموارد البشرية اللازمة لإنتاج هذه التكنولوجيا واستخدامها، مروراً بتوعية المصنّعين للتشابك مع هذه المجالات، وتحفيز الدولة لهذه العملية من خلال أدواتها المالية والنقدية، فلديها حوافز ومنح التصدير، وكذلك الخفض الضريبي، علاوة على أسعار فائدة تمييزية تُقدّم لمثل هذه الصناعات.
من المعلوم أنه خلال السنوات الماضية أُسس 80 مجمعاً للصناعات التقنية، وأكثر من ألف و500 مركز للبحث والتطوير، وأنّ الدولة التركية تستهدف التحوّل خلال السنوات العشر المقبلة إلى بلد رائد في عالم التكنولوجيا، ورغم ذلك فإنّ التطور في التعليم لم يواكب هذه الطموحات، التي لم تظهر نجاحاتها حتى الآن إلا في الصناعات الدفاعية فقط، مما يحتم المزيد من إفراد مساحات التخطيط لهذه القضية.
المشكلة الثانية التي يحتاج الاقتصاد التركي إلى مواجهتها هي عدالة التوزيع المرتبطة بصورة مباشرة بمعدلات الفقر، وهي آفة رأسمالية معتادة، يمكن مواجهتها عبر آليات السياستين النقدية والمالية في الظروف العادية، ولكنها في ظلّ ظروف مثل تداعيات فيروس كورونا، وتأجيج التضخم العالمي، والانخفاض المستمر لليرة التركية، من الواجب أن تُفرد لها خطط وبرامج مفصلة، تواجه تراجع مستوى جودة الحياة بصورة كلية، ولا تقف كثيراً عند حدود خطوط الفقر العادي أو المدقع التي يتبناها البنك الدولي.
أربكت أزمة كورونا النظام الاقتصادي العالمي، وبدأت إرهاصات التغييرات التكتيكية للعولمة، ونقل جزء من المصنع الصيني إلى دول أخرى تتوافر فيها العديد من المعايير، وتبدو الدولة التركية جاهزة لشغل هذا الحيّز الجديد، وربما يكون الانخفاض المتوالي لليرة التركية أحد استراتيجيات اقتناص هذه الفرصة التي ربما لن تتكرر في الزمن القريب، ولكن ذلك لا يعني إهمال معاناة الطبقات الفقيرة والشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة جراء الارتفاع المستمر في الأسعار.
وأخيرا، فإن تبني الشفافية والإفصاح كأحد أهداف الخطة الاقتصادية الثلاثية يحتاج إلى استكماله بتبني برنامج شامل لمكافحة الفساد، وتبني مبادرات لترسيخ الشفافية، ومحو أميّة البيانات، وحفز النزاهة، وكلها متطلبات شديدة الأهمية لدعم وترسيخ الثقة بين المواطن والدولة، ودعم تكافؤ الفرص بين المؤسسات الصغيرة والكبيرة، وحفز الاستثمارات الأجنبية المباشرة وجذبها، علاوة على الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة وتقليل الفقر، وتماسك النسيج الاجتماعي، والحفاظ على مقدرات البلاد والحفاظ على الأمن القومي.
تشكل التحديات المحلية السابقة، بالإضافة إلى التحديات الاقتصادية العالمية والمتمثلة بمشاكل سلاسل الإمداد والتوريد، وأزمة الرقائق الإلكترونية، والحرب التجارية الصينية الأمريكية، وأزمة أسعار الشحن العالمية، علاوة على التغيّرات المناخية، تحديات كبيرة تواجه طموحات توسع الاقتصاد التركي وتمدده، والتي يتوجب لمواجهتها الاستعداد ببرامج أكثر تفصيلاً للتعاطي مع كلٍّ منها، في ظل استراتيجية طويلة الأمد، تواجه المشكلات الداخلية، وتقتنص الفرص المتاحة جراء الأزمات العالمية.