داء الاغترار بالقوة… دروس من القرآن والتاريخ

أحمد أبو ارتيمة يكتب:

نشوة القوة مسكرة لأصحابها وحجاب لعقولهم، تحرضهم على الطغيان والاستكبار والمشي في الأرض مرحًا: “كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى”. القوي المستكبر يرى الناس في عينيه مثل الذر، لا يبالي أن يسحقهم في طريق نزواته واستعلائه.

حين يعيش الإنسان بنفسية القوة لا يستمع لنداء العقل، ظنًا منه أن العقل حيلة الضعفاء، بينما منطقه الوحيد إذ يمتلك القوة هو البطش وإكراه الناس على إرادته: قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفًا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز. هذه الآية نموذجية في تحليل سيكولوجية الاغترار بالقوة، فالنبي يخاطبهم بالعقل والحوار، بينما هم لا يفكرون إلا بمنطق القوة. فما دام النبي ضعيفًا، فليس من حقه أن يتكلم معهم، إذ الحق في نظرهم هو القوة. القوي هو الذي يملك حق تحديد المعايير الأخلاقية وتقرير الصواب والخطأ، تمامًا مثل واقع السياسة الدولية اليوم، التي تعكس موازين القوى وليس المبادئ والحقوق. فالخمسة الكبار الذين يملكون حق النقض (الفيتو) ميزتهم الوحيدة أنهم المنتصرون في الحرب العالمية الثانية، وكما قال -فيما أظنه- جودت سعيد: لو انتصر هتلر لما وجد صيغة أسوأ من صيغة الفيتو لفرض سلطانه على الأرض. الفيتو يعني ببساطة أن القوة هي الحق، وأن إرادة كل شعوب الأرض مجتمعة لا اعتبار لها إذا تناقضت مع مصالح القوى الكبرى. إنه منطق: وإنا لنراك فينا ضعيفًا. أخرج ما لديك من أوراق قوة حتى نقرر إن كان من المناسب أن نتحدث معك أو أن نحاربك.

مرض الاستكبار في الأرض قديم قدم الوجود الإنساني، فالقوة هي التي تمنح الإنسان الشعور التألهي، أنه يملك ميزات إضافية ترفعه عن مصاف الناس العاديين. يتلخص تاريخ الصراعات في تصادم الإرادات وسعي كل فريق لسحق إرادة خصمه وأن تكون الكلمة الأخيرة له، بما يعني ادعاءً ضمنيًا للألوهية. فالله تعالى وحده الذي يملك الإرادة الحقيقية المتغلبة، والمشيئة التي لا راد لها. وحين يضيق الإنسان بمعارضة إرادته ويسعى لسحق هذه المعارضة، فهو بذلك يسعى إلى أن يثبت أنه لن تكون على الأرض إلا مشيئته.

ولو فككنا كل الخطابات السياسية على كافة المستويات، لوجدنا القاسم المشترك بينها أن كل فريق يحاول كسر إرادة أعدائه. لماذا تحارب أمريكا هنا عسكريًا، وتحاصر هناك اقتصاديًا، وتغزو بلدًا ثالثًا بالبرامج الثقافية والمساعدات الإنسانية؟ أليس الهدف المباشر هو أن يخضع العالم كله لإرادتها، وألا تكون هناك أية قوة تخرج عن طوعها؟ إن السبب النفسي يبدو أعمق من السبب الاقتصادي في تفسير الصراعات البشرية. لو قلنا إن الدول تسعى لتقوية اقتصادها عبر الحروب، فإن السؤال يظل قائمًا: لماذا تريد الدول تقوية اقتصادها؟ إن القوة الاقتصادية ليست هدفًا بل وسيلة للهيمنة السياسية وفرض الأجندة وإعلاء القيم. وحين تنجح دولة في الوصول إلى مستويات قياسية من الرفاهية لمواطنيها، فإنها لا تغلق الأبواب على نفسها، بل تبحث عن دور سياسي تمد به نفوذها وتحقق كبرياءها.

لم تكن خشية فرعون من دعوة موسى أن يصلي بنو إسرائيل ويصوموا لإلههم الذي في السماء، بل كان يخشى أن يزاحمه موسى في نفوذه السياسي: وتكون لكما الكبرياء في الأرض. هذه المقولة التي جاءت على لسان ملأ فرعون تلخص المنطلق النفسي الذي يرسم سياسات الدول الكبرى في كل زمان. فهي معركة البحث عن النفوذ والكبرياء، تستعمل فيها الأدوات العسكرية والاقتصادية والإعلامية من أجل إشباع شعور عميق في نفوس الأفراد والأمم بالعلو والتلذذ بفرض الإرادة على الآخرين.

التوحيد في حقيقته دعوة للعدل والمساواة الإنسانية. التوحيد يعني أن تتحرر من شعور الاستكبار على الضعفاء أو الاستضعاف أمام السادة والكبراء، وأن تعتقد أن الناس كلهم عباد لإله واحد. فترضى لنفسك ذات المعيار الذي تريده لغيرك، وتؤمن بتساوي الحقوق الإنسانية. لا تسعى لسحق إرادة غيرك لأنك تؤمن أنه إنسان مثلك، ولا تتعالى على غيرك لأنك عبد ضعيف مثله. التوحيد يعني أن يسود التعاون والاعتراف، لا التصادم والإلغاء، في علاقات الأفراد والشعوب والأمم.

التوحيد دعوة لميلاد عالم الحق لا عالم القوة. عالم يكون الناس فيه أقوياء بمبادئهم الأخلاقية لا بعربدتهم وبطشهم، لأن قوة المبدأ الأخلاقي أثر من قوة الله الحق، الذي وضع الميزان بما يعنيه من قوانين أخلاقية دقيقة. بينما قوة العربدة والبطش عبادة للأصنام، فالاعتقاد بأن القوة المادية تملك الضر والنفع والموت والحياة والنصر هو شرك بغير الله: واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزًا”، “واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون.

في مثال قوم عاد في القرآن الكريم: فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة.

هو ذات الاغترار الذي يصيب كل الأمم، فروسيا اليوم تعربد في سوريا ومن قبل في أوكرانيا وجورجيا وهي تقول: “من أشد منا قوة”. يجيب القرآن على كل الذين يعبدون صنم القوة: “أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً. وهو جواب علمي وليس غيبيًا. فالاغترار بالقوة موقف غير عقلاني يقوم على تضخم الشعور بالذات والغفلة عن القراءة الموضوعية لمعطيات الواقع ومسار التاريخ وحدود القدرات البشرية. القوي، في ساعة سكرته، يظن أن لا حدود لقدراته وأن نهاية التاريخ قد كُتبت عند أوج مجده وسلطانه. هنا يعادل القرآن هذا الإفراط في تقدير حدود الذات بالتذكير بالقوة المطلقة المحيطة التي كانت هي علة زوال الحضارات وفناء الأمم عبر التاريخ.

Exit mobile version