رحلة فيميد في الأرشيف العثماني

زيارة الأرشيف العثماني سفر عبر الزمان والمكان ، ورواية لرحلة انسان يناهز 25 عاما يالعمل في هذا المكان ، وجسرعبور بين التاريخ والحاضر،وسد هوة كبيرة طالتها الألسن والأقلام .


أرشيف كبير بكبر ما رقعة جغرافية السلطنة ، أكثر من 400 مليون وثيقة و 100 مليون ورقة ادارية ، أرقام تخمينية لحجم أرشيف ضخم ، وعمليات فرز وتصنيف لم تنتهي بعد ، تشهد على عظم دولة عاشت ستة قرون .

العديد من الوثائق والأوراق المتعلقة بالقصروالباب العالي ، والتي لم تحفظ جميعها في الأرشيف ، بسبب تعرضها للضياع والإهمال في الأحداث المتسارعة بعد الإنتقال من عهد الخلاقة إلى الدولة ، مما جعلها تتفرق بين 45 دولة في البقعة الجفرافية الكبيرة للسلطنة .


وروى مصطفى شيخ مرشدي الأرشيف عن بدايته وتكوينه ، من نواة دائرة صغيرة داخل السلطنة يدعى بدفتر الخانة أو مخزن الدفاتر كما اصطلح عليه حينها إلى مركز كبير سمي بالأرشيف العثماني لجفظ الوثائق والأوراق المتعلقة بالدولة ، على يد السلطان عبدالمجيد الأول في القرن 19 للميلاد .


ومع بدء التغيرات والتطورات الكبيرة الطارئة على الدولة آن ذاك، والتحول من المركزية في الإدارة من قبل السلطان والصدر الأعظم والقصرإلى شكل مؤسساتي في الحكم ، خرج الأرشيف للنور.


كان توسع الدولة وتشكل وزارات ومؤسسات تدير شؤونها ، داعيا أساسيا لتخصيص مبنا للأرشيف وانشاء دائرة منفصلة عن الدوائر الأخرى ، اذ لم يعد مخزن الدفاتر الصغير ذاك يفي بالغرض .


وأجاب حول سؤالنا عن صحة أقوال بوجود أوراق ووثائق تعود لعهد السلطنة خارج الأرشيف ، قال إن “مؤسسات تركية عديدة تحتفظ بجزء من الوثائق العثمانية المرتبطة فيها مثل دوائرسجلات الأراضي والنفوس ووزارات الدفاع والأوقاف” .


وأوضح أن بقاء وثائق وأوراق مهمة في تلك المؤسسات والوزارات يتعلق بطبيعة عمل كل مؤسسة ، مضيفا بأنه لا نية للأرشيف لاستعادتها ، وأن كل مؤسسة تقوم بذاتها من حيث حفظ الوثائق والأوراق ورعايتها دون اتصال مباشر مع الأرشيف .


ولفت أن بعضا من العوائل والشخصيات المقربة من السلطنة والقصر لا تزال تمتلك وثائقا تعود لعهد الخلافة وتفاخر بذلك ، ونوه أن عددا من الوثائق التي حفظت في بشكل شخصي تم استعادتها ، خصيصا لتلك التي كانت في الباب العالي ” توب كابي سراي ” .


وبين سعي تركيا الحثيث على جمع كافة الوثائق المتعلقة بالحقبة العثمانية وخصوصا في الدول الأوربية لتركز الوثائق فيها .


وكانت الوظيفة الأساسية للمخزن هي معرفة طبيعة الوثيقة والمعلومات الأساسية عنها فقط ، مثل تاريخها ولمن تذهب ولأي شأن ، وليس استصدار نسخة كاملة عنها ، وذلك لأنها عملية منهكة للغاية وتحتاج الكثير من الوقت والجهد اللذان لم يكونا يتوفران في ذلك الوقت .


وضرب مثلا للتأكيد على أهمية دفتر التسجيل في المخزن ، حيث أنه لو تم فقدان أي مراسلة أو وثيقة معينة في وقت ما يرجع إليه على الفور لمعرفة ماهيتها ، للمحافظة عليها أو تجديدها إن استدعت الحاجة .


وذكر أن الفرمانات الخلافة كانت ملتزمنة بطابع خاص في ذلك الزمان ، خط على طول الصحيفة التي كتب عليها الأمر ورسم مميز مائل للنص يعتليها.


وطرح فكاهة أنه من كثرة تعامله مع الوثائق والأوراق ، أصبح يحفظ ديباجتها و يميز بينها كدعاء الصلاة من بداية قراءة للصحيفة.


ويوثق الفرمان او المراسلة في مخزن الدفاتر بالرقم والجهة والصفة الموجهة له ، في نسخة مطابقة للأصل للتوثيق في الأرشيف وتذهب تلك الوثيقة إلى الجهة التي أرسلت إليه ، إلا أنه لا يعمد إلى هذه الطريقة في كل المعاملات ، بسبب قلة الأوراق وعدم توافرها .


وعند توقفنا لرؤية صناديق الحفظ والتخزين للوثائق والأوراق ، شدتنا الأرقام الهندية عليها فتسائلنا عن السبب ، فقال إن “تداخل الدولة العثمانية مع الكثير من الحضارات والدول أدى إلى دخول العديد من الكلمات والأحرف والأرقام على لغتها بعد تطويرها ، مما سمح لإستخدامها جميعا للتعبير عن شيء واحد ، مثلما تشهده اللغة التركية حاليا”.


وفي حديثنا عن اللغة العثمانية المستخدمة في كتابة الرقع ، قال إنه ” تم نقل جزء كبير من اللغة القديمة إلى اللغة التركية إضافة إلى العديد من اللغات الأخرى نظرا لكبر جغرافية السلطنة ، ولربما تعد أكبرها العربية، بل وانتقلت العادات والتقاليد الأخرى إلينا أيضا”.


وبين أقسام الأرشيف استوقفتنا صورة فوتغرافية وحيدة فيه، عندها تغيرت ملامح مصطفى ومن ثم ابتسم ، فطلبنا أن يقص لنا حكايتها ، فقال إن ” هذه الصورة الأولى للأرشيف حيث التقطت عام 1850للميلاد، لذلك هي ذكرى خاصة له” ، إضافة إلى حملها خصوصية أخرى ألا وهي توثيق خروج الدولة العثمانية من بلغاريا وجمع الموظفين لأرشيف السلطنة هناك .


وفي حديثنا عن اللغة العثمانية المستخدمة في الكتابة على الرقع ، قال إنه ” تم نقل جزء كبير من اللغة القديمة إلى اللغة التركية إضافة إلى العديد من اللغات الأخرى نظرا لكبر جغرافية السلطنة ، ولربما تعد أكبرها العربية، بل وانتقلت العادات والتقاليد الأخرى إلينا أيضا”.


وحول تسليم تركيا لحزمة من الوثائق والأوراق المتعلقة بفلسطين والقدس للسلطة الفلسطينية ، قال إن “التسليم الكبير كان من مركز أنقرة في زمن الرئيس الراحل ياسر عرفات ، والتسليم الأخير يعد رمزيا ، ويعبر عن ردة فعل تركية بوجه الهجمة الإسرائيلية على ممتلكات الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية”.


وأشار إلى أن المهم ليس تسليم الأوراق بحد ذاته بل تكمن الأهمية في تحليلها والإستفادة منها ، والتمحيص فيها واستخدام ما يمكن في المحاكم الإسرائيلية لاثبات أحقية الفلسطينيين بأراضيهم .


ويعتقد مصطفى أن السجلات البريطانية تحتوي الكثير من الوثائق الأكثر أهمية في الصراع القانوي بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، بسبب الإنتداب البريطاني ، وشدد على أن الباحثيين والأكاديميين الفلسطينيين عليهم البحث الدؤوب في الأرشيف العثماني والبريطاني لتقارب الفترة الزمنية بينهما وكسب مزيد من السجلات القانونية والتاريخية أمام السلك القضائي هناك.


كما أشار إلى اهتمام بالغ في كل تفصيل بالمكان ، وأهمها نظام “عاقل” المسؤول عن ضبط الحرارة في الغرف والمستودعات التي تخزن وتحفظ بها الوثائق والأوراق ، تلافيا لأي خلل يؤدي إلى تلفها أو الإضرار بها ، مثل الزلازل والسرقة وتقلبات الجو، لذلك يوجد بعض الوثائق المعروضة فيه ليست الأصل إنما تطابقها فقط لأهميتها ووجود نسخة واحدة منها.


ولعل أكثر ما شدنا في رحلتنا ، تغير لون السجادفي كل قسم، وعلل مصطفى ذلك أن كل لون يمثل وزارة أو هيئة أو حقبة زمنية معينة شهدها ذاك العصر.


وفي ختام جولتنا عبر عن سعادته بالاهتمام الكبير في الأرشيف من قبلنا ، وطالب المسلمين من البحث في الأرشيف والإستفادة القصوى من وثائقه وأوراقه ، والتعرف أكثر على هذه الحقبة التي روي عنها الكثير من الروايات غير الحقيقية .

Exit mobile version