سمير صالحة
لا أحد يتابع بدقة عدد الأهداف التي سجلها جهاز الاستخبارات التركي في مرمى الموساد الإسرائيلي في العقد الأخير وبعد تسلم هاقان فيدان لإدارته. لكن المتبقي في الذاكرة هو اعتقال مجموعة تابعة للموساد تتحرك في مناطق البحر الأسود شمالي تركيا قبل أكثر من عقد وتجمع المعلومات حول أنواع الأشجار والنباتات والزهور الموجودة هناك، وأخذ عينات منها إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي للاستفادة العلمية والطبية والزراعية منها. ثم الكشف عن شبكة الإيرانيين الذين جندهم ودربهم جهاز الاستخبارات الإسرائيلي داخل الأراضي التركية قبل 8 سنوات. ثم تفاصيل حادثة أسطول مرمرة عام 2010 وكيف وجدت نفسها محاصرة بالضغوطات الدولية أمام الوقائع والأرقام التي قدمتها الاستخبارات الدولية، ودفعت حكومة “تل أبيب” لقبول المسؤولية السياسية والقانونية الكاملة عن مقتل وجرح العشرات من الناشطين، واقتيادهم إلى السجون في عملية قرصنة بحرية سجلها التاريخ.
فيما كان الجميع في تركيا ينتظر كشف أجهزة الاستخبارات التركية للمزيد من التفاصيل حول عملياتها التي نفذت ضد مجموعات تجسس إيرانية وروسية تنشط داخل الأراضي التركية، فاجأتنا أنباء طلب الادعاء العام التركي من محكمة الجزاء في إسطنبول توقيف وسجن 15 شخصا من أصول عربية بتهمة العمالة لجهاز الموساد والتجسس على الجاليات العربية في المدن التركية، وتنفيذ أنشطة تمس الأمن القومي التركي. عملية إسرائيلية من هذا النوع وبهذه الضخامة فوق الأراضي التركية عبر استغلال مقيمين عرب للتجسس على إخوانهم العرب والمؤسسات التركية تطلبت حتما تحضيرات وتجهيز وتمويل إسرائيلي ضخم. لكن كشفها واعتقال عناصرها وجمع المعلومات والأدلة والوثائق حول هذه النشاطات كان يتطلب أيضا تعقب ما يجري بسرية واحترافية كي لا تفشل الجهود.
التهم ستكون كثيرة عند إنجاز الادعاء العام التركي لتحقيقاته حول نشاطات هذه الخلايا التي بدأت قبل 5 سنوات تقريبا، وبينها جمع معلومات عن الطلاب العرب في الجامعات التركية، وبخاصة أولئك الذين يدرسون في مجال الصناعات الدفاعية. وإعداد تقارير عن عمل العديد من المؤسسات والمراكز العربية التعليمية والخدماتية والتجارية والإعلامية في أهم المدن التركية وتقديمها للموساد الإسرائيلي، بطرق مختلفة تم تدريبهم عليها مقابل أموال آلاف الدولارات التي دفعت لهم بعدة أشكال.
عملاء يصنفون أنفسهم من الجالية العربية في تركيا لكنهم ينشطون في التجسس على إخوانهم باسم الموساد الإسرائيلي ويرفعون التقارير المفصلة حول نشاطاتهم وتحركاتهم وعلاقتهم بالأتراك. حالات كثيرة مشابهة تابعناها في الأفلام والمسلسلات وملفات الاستخبارات. انتهت بالإعدامات. لكن مشكلة تركيا أنها التزمت للمجلس الأوروبي بعدم تطبيق العقوبة عندها.
نحن لا نعرف بعد الكثير حول تفاصيل العملية الاستخباراتية التركية. كيف تم اكتشاف هذا العدد من الخلايا والعناصر؟ أين بدأت الحكاية وكيف ستنتهي؟ هل كان هناك تعاون عربي من قبل بعض المقيمين باتجاه دعم الأجهزة الأمنية التركية للكشف عن المؤامرة؟
المشكلة ليست في خيانة بعض العملاء العرب لإخوانهم ومضيفهم التركي. بل في تجييش هذا العدد من الخلايا والأشخاص وكل هذا التدريب والتجهيز والتواصل داخل تركيا وخارجها مع ضباط الاستخبارات الإسرائيلية، حيث سيظهر قريبا حجم الأضرار التي تسببوا بها. لكننا نعرف أن أبطال الرد على هذا التحرك الإسرائيلي وصل عددهم إلى حوالي 200 عنصر من كوادر الاستخبارات المضادة التركية رصدوا تحركات هذه الخلايا منذ أكثر من عام داخل تركيا وخارجها ونجحوا في جمع الكثير من التفاصيل بالتواريخ والأسماء والأماكن التي دفعتهم لإعلان ساعة الصفر عبر عملية متزامنة في 4 مدن تركية.
بعد كشف القضاء التركي عن تفاصيل ما جرى سيكون هناك حتما نقاشات سياسية أمنية داخل سلطات الاحتلال لتحديد المسؤوليات ومعاقبة الفاشلين. لكن أنقرة لن تترك المسألة تمر بمثل هذه السهولة وهي توثق كل شاردة وواردة في تحركات واتصالات رجال الموساد مع عملائهم داخل تركيا وخارجها ولتطارد قريبا حكومة الاحتلال الجديدة بهذا الملف ورغبتها بتطبيع العلاقات مع تركيا.
الغريب هو أن توقف السلطات التركية المتواطئين العرب وتنسى مشغليهم الإسرائيليين. لا طبعا فبعد بعد أيام ستهبط حتما في مطار أنقرة طائرة خاصة تقل مجموعة من الدبلوماسيين والأمنيين الإسرائيليين في محاولة لبحث سبل لفلفة الموضوع وعدم تضخيمه أكثر من ذلك. ستكون محاولة جديدة تذكرنا بحادثة أسطول الحرية في مياه المتوسط وكيف سارعت تل أبيب لتقديم الاعتذار ودفع التعويضات والتعهد بوقف اعتداءاتها على قطاع غزة. هل تعرض “تل أبيب” المقايضة على أنقرة على أساس أعطونا العملاء وخذوا ما تشاؤون من الأسرى والمعتقلين والسجناء العرب لدى الاحتلال مثلا؟ كيف سيكون الرد التركي؟ هناك حتما الشق الدبلوماسي السياسي في الموضوع لكن هناك أيضا الشق العدلي الجنائي الذي لا بد أن يأخذ مجراه.
تسريبات تركية نقلا عن جهاز الاستخبارات التركي تقول إن العملاء التقوا وجها لوجه مع مسؤولي الموساد الإسرائيلي في الخارج وفي أماكن بينها زيوريخ وزغرب وبوخارست ونيروبي الكينية. فكيف ستتصرف دول هذه العواصم الأوروبية والإفريقية التي استخدمت الاستخبارات الإسرائيلية أراضيها للقيام بنشاطات التجسس والاجتماع بعناصرهم الوافدة من تركيا لتدريبهم وتجهزيهم في قواعده هناك وبعدما تزودها السلطات التركية بالتفاصيل التي تعنيها في الملف؟
في مطلع آب عام 2010 وقف وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك أمام الكاميرات ليعبر عن قلقه من تولي هاكان فيدان منصب رئيس جهاز الاستخبارات التركية، “لأنه قريب من إيران وقد يسلمها وثائق مهمة عن الدولة العبرية والتعاون الأمني التركي الإسرائيلي، مما يهدد أمن إسرائيل”.
الموساد لا يريد أن يتعلم الدرس رغم فشله على أكثر من جبهة في السنوات الأخيرة كان بينها الساحة اللبنانية والأردنية والإماراتية والفلسطينية.
الموساد يصطاد العملاء بطرق شبه معروفة كررها مع هذه المجموعة في تركيا هذه المرة. هو يبحث عن ضعفاء النفوس ومن يبحث عن المال والعمل ويجد ضالته لديهم. لكن الموساد سيعترف عاجلا أم آجلا بقدرات جهاز الاستخبارات التركي «إم آي تي» أو الميت كما يقال بالتركية بكسر حرف الميم.
وتحديثه من خلال عملية إعادة بناء شاملة داخل تركيا وخارجها، وعبر إضافة عناصر شابة تجيد لغات كثيرة وتتمتع بمزايا مهنية وشخصية عالية وتعرف المنطقة وتركيباتها وتداخلاتها بعدما كان يتحرك في نطاق ضيق يستعين فقط بالكوادر العسكرية ونظام داخلي معقد. وأن عملياته الدفاعية والهجومية تسمح له بما يملكه من كوادر بالتصدي لمحاولات اختراق الأراضي التركية وتطارده حيث ينشط في العديد من العواصم العربية والغربية.
“تل أبيب” التي كانت تستعد لانطلاقة جديدة في علاقاتها السياسية والدبلوماسية المتوترة مع أنقرة وتعد نفسها للحظة إعلان تبادل السفراء مرة أخرى أمام أزمة انسداد الأبواب قبل أن تفتح مع تركيا. من الذي سيتحمل أعباء ما جرى ويدفع الثمن في “إسرائيل”. جهاز الموساد وقياداته أم الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي أعلنت أنها تريد أن تبدأ صفحة جديدة من العلاقات مع تركيا. وما الذي ستطالب به القيادات التركية بعد الكشف عن تفاصيل تحرك عملاء الموساد لإلحاق الضرر بالداخل التركي ومطاردة الجاليات العربية ومحاولة تجييش عملاء لها من ضعفاء النفوس والولاء الوطني والقومي وناكري الجميل.
كماشة تركية فكها السياسي الأجهزة القيادية الناشطة في أنقرة وفكها الأمني والاستخباراتي الذي تديره كوادر الميت و”إسرائيل” وقعت كفريسة مرة أخرى بين الفكين فكيف ستتصرف لتخرج من المصيدة؟