رانية نصر – باحثة دكتوراة في الإعلام السياسي
لم تذكُر كتبُ الفقه والتراث الإسلامي مصطلح “فقه الاشتباك” كمركّب لفظي مكون من كلمتي “الفقه” التي تختصّ بالأحكام العملية الشرعية و”اشتباك” والتي كثيراً ما تُستخدم في كتب العلوم العسكرية والأمنية والسياسية، لكن مستجدات الأحداث على أرض الواقع تؤسس لمصطلحاتٍ مفاهيمية حاضرة في أذهان الناس وعقولهم ابتداءً.
وبالرغم من أن هذا المفهوم ليس بجديد كاستراتيجية تطبيقية؛ حيث إنه أحد الأدوات الدفاعية والهجومية بحسب ما يستدعيه الموقف؛ إلا أنه جديد كمصطلح لفظي مُركّب، فما معناه وما مدى مشروعيّته وما هي أهدافه التكتيكية والاستراتيجية؟
معنى الاشتباك الميداني
الفقه بمعناه الاصطلاحي هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المُكتسبة من أدلتها التفصيلية، والاشتباك بمعناه اللغوي هو التداخل والتشابك وهو الالتحام والتضارب بالأيدي، والاشتباك في الحديث؛ هو الدخول في نقاش حادٍ، واشتبك مع العدو: أي التَحم أو شَرعَ معه في حرب.
والاشتباك بمعناه العسكري؛ هو تداخل المتحاربين واختلاطهم هجوماً ودفاعاً كراً وفراً لاعتقادهما بأحقية ما يقومون بالدفاع عنه سواء كان حقاً مادياً أو معنوياً.
وعندما توضع كلمة “فقه” بإزاء كلمة اشتباك يتشكل لدينا مفهوم أو تصوّر حادثٌ مقتضاه مشروعية الاشتباك مع العدو، وفي هذا المقام نتحدث عن الاشتباك الميداني تحديداً دون المعاني الرّديفة الأخرى.
ألفاظ ذات صلة
المناورة؛ والمناورة هي عملية عسكرية بها فِرقٌ من الجيش يقاتل بعضها بعضاً على سبيل التدريب، وهي إحدى الأعمال التي يتم من خلالها إحباط خصمٍ أو العمل على كسب العديد من المميزات، واستَعمَل هذا اللفظ المنظّرون العسكريون للتّعبير عن خوض حرب بهدف تحقيق هزيمة الخصم من خلال شَلّ قدرته على اتخاذ القرار عبر الصدمة المفاجئة والإرباك الذي تجلبه الحركة باستخدام أساليب استراتيجية مدروسة، وهي كذلك التّحرك السريع لإبقاء العدو غير متوازن، والاشتباك والمناورة يتفقان في هدف التّغلب على العدو من خلال مباغتَتِه لإرباكه والسيطرة عليه ويختلفان في أنّ الاشتباك قد يكون جماعياً أو فردانياً أما المناورة فغالباً ما تكون جماعية.
الالتحام؛ التحام الجيشين أي: اشتباكهما واختلاطهما وتداخلهما وتقاتلهما، واِلْتَحَمَ أي التصق، والْتحمَتِ الحرب أي: اشتدت، وتتشابه كلمة الالتحام مع التشابك في هدف مقاتلة العدو وهزيمته، قال صلى الله عليه وسلم: “إن فُسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، إلى جانب مدينة يقال لها: دمشق، من خيرمدائن الشام” والملحمة هي الحرب العظيمة التي تكون بين المسلمين والكفار، وهو تعبير عن التقاء الصّفّين.
الالتقاء؛ وهو مقابلة العدو في الحرب، قال تعالى “إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ” آل عمران 155، وقال تعالى: “فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ” محمد 4، فعبّر عن نشوب الحرب بين المؤمنين والكافرين بكلمة “اللقاء”، وجاء في الحديث النبوي “لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية”، ونخلص مما سبق إلى أن كلمة الاشتباك هي جزء من منظومة الالتقاء بالعدو في ساح المعركة، بل هي مقدمة الالتقاء وما يستتبعه من مناوشات، وبدون هذا الاشتباك لا يكون الالتقاء والالتحام.
وجدير بالذكر أن كلمات مثل: مناورة، والتحام، واشتباك قد نجد لها جذوراً في المعنى اللغوي؛ إلا أنها لم تُذكر في النصوص القرآنية كمصطلحات شرعية لها دلالات فقهية بخلاف كلمة الالتقاء التي ذُكرت أكثر من مرة في القرآن الكريم للتعبير عن دلالة إقامة الحرب مع العدو.
والاشتباك بكل ألفاظه ومفاهيمه هو أحد الأدوات المعينة على إرباك خطط العدو الباغي، قال علي –كرم الله وجهه- لابنه: “لا تَدعُ أحداً إلى المبارزة، ومن دعاك لها فاخرج إليه؛ لأنه باغٍ، وقد ضمن الله نصر من بُغِيَ عليه”، إذن فالخروج والاشتباك مع العدو واستدراجه للالتحام مع أبناء المقاومة عمل فيه طاعة لله، بل هو واجب شرعي على كل مُستطيع قال تعالى: “فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ” والأمر هنا للوجوب ما لم يصرفه صارف، والاعتداء يجب أن يقابَل باعتداء مماثل -إذا غلب على الظّن تحقيق مصلحة راجحة مُتحققة الوقوع- لدفع الظلم ولرد العدوان والطغيان والبغي.
أهداف الاشتباك التكتيكية والاستراتيجية
الأهداف التي يحققها الاشتباك على المستوى التكتيكي كثيرة ومطلوبة منها: إرباك وإرهاب العدو، وقذف الرّعب في قلبه وزعزعة أمنه، قال تعالى: “وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ” الأنفال 60، وإظهار القوة والتماسك في الصف المسلم، وتحقيق عبادة الإغاظة والنكاية به، وإظهار الثبات والصمود في أبناء الشعب الفلسطيني، أما على المستوى الاستراتيجي فكذلك الأهداف معتبرة مثل إفشال مخططاته، والضغط على القرارت السياسية والدولية، وإخضاعها لإرادة الشعب الفلسطيني وقراراته، وكسب الرأي العام وإعادة توجيهه ليصب في مصالح الفلسطينيين وإزالة الاحتلال نهائياً.
الاشتباك والضروريات الكلية الخمسة
حفظ النفس ليس غاية مطلقة في الدين الإسلامي؛ بالرغم من أنه أحد الكليات الخمس المشروعة التي اعتبرها الشارع من أعلى مقاصد الشريعة، قال الإمام الغزالي: “إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة”، لكن في الوقت ذاته هذه الكليات مرتبة حسب الأولويات، فمنها ما هو مُقدّم على الآخر كتقدّيم حفظ الدين على النفس، فمتى تعذّر حفظ الدّين بُذِلت النفس رخيصة في سبيل الدفاع عنه، ولذلك شُرع الجهاد في سبيل الله، فلا معنى لحفظ النفس والدين مستباح جانبه، وهومقدم في الأولويات على بقية الكليات.
فالاشتباك الفردي مع العدو يحقق مقصد الدفاع عن الدين إذا تعذر الجهاد الجماعي وأحبطت كل الجهود الساعية لتحقيقه.
واجب المقاومة بالاشتباك
إذن؛ فالاشتباك نوع من أنواع المقاومة، والواجب دعم هذه المقاومة وشبابها في صد عدوان الاحتلال لحماية المقدسات الإسلامية وإزالة الاحتلال البغيض، وهذا الواجب مَعنيٌ به كل أبناء الأمة الإسلامية، فمتى تعذر الجهاد الميداني لا تتعذر الوسائل الأخرى خاصة في عصر التقنيات الحديثة والتكنولوجيا، فالمقاومة اليوم قد تتحقق من خلال التطبيقات المعاصرة مثل التيك توك أو الانستغرام أو السناب، فلا بد من تثوير القضية الفلسطينية في وجدان النّاس وتصديرها في منصات التواصل الاجتماعي على أنها قضية عادلة تستحق أن يُهتم بها وبكل قضايا الأمة الإسلامية وقضايا الأوطان المستباحة والمهدورة دماء أبنائها من القريب قبل البعيد.