فلسطينيو دول الطوق.. الرقم الصعب الذي يريدونه سهلا
ياسر علي
لطالما أولى الغرب للأرقام والإحصاءات أهمية خاصة في القضايا السياسية، وربما عدوها العقبة الأساسية في حل القضية الفلسطينية باعتبار عدد اللاجئين “الضخم” نسبة إلى عدد السكان غير الفلسطينيين في فلسطين التاريخية.
ويجري العمل منذ عقود على تقليص أعداد اللاجئين في الدول التي تضم مخيمات اللاجئين (طول الطوق، أو دول مناطق عمل الأونروا).
ففي لبنان مثلا فتح باب الهجرة لفلسطينيي لبنان بعد كل حرب كبيرة بشكل ملحوظ. فبعد مجزرة تل الزعتر 1976 فتح باب الهجرة إلى ألمانيا، وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 ومجزرة صبرا وشاتيلا فتح باب الهجرة إلى السويد. وفي أثناء حرب المخيمات 1985-1987 فُتح باب الهجرة إلى الدنمارك، وبعد الحرب اللبنانية 1990 فتح باب الهجرة إلى بريطانيا.
والآن بابُ الهجرة مفتوحٌ إلى أوروبا بين مهاجري الأزمة السورية من الفلسطينيين. وهي هجرات نصف شرعية، يتغاضون عن دخولهم، ثم يعملون على تأهيلهم، فيبقى المندمجون ويغادر من لا يصلح للاندماج.
من جانب آخر لم يغفل رعاةُ مشروع التسوية عن تفحّص أعداد الفلسطينيين في دول الطوق، فقامت أكثر من جهة بإجراء أكثر من عملية مسح للاجئين الفلسطينيين في لبنان على وجه الخصوص، وقد حاولوا ذلك في سوريا أيضاً. لدرجة أن لبنان الذي شهد آخر إحصاء سُكّاني لمواطنيه سنة 1932، شهد في العقود الماضية عدة مسوح وإحصاءات للاجئين الفلسطينيين.
وحسب تقارير جهاز الإحصاء المركزي عام 2019 “يعيش في الدول المجاورة لفلسطين (الأردن وسوريا ولبنان) نحو 5 ملايين و555 ألفا و451 فلسطينيا، ويقطن في الدول العربية نحو مليون و337 ألفا و400 فلسطيني”.
تعد هذه الأرقام بالنسبة إلى الاحتلال والغرب عقبة في وجه التسوية المرتقبة. وملف اللاجئين المؤجل في اتفاق أوسلو إلى مفاوضات الحل النهائي في قسمه الأكبر موجود في دول الطوق (أكثر من 5 ملايين لاجئ).
ويلاحظ بوضوح أن خطة حل “مشكلة” عودة اللاجئين ترتكز على عملية تذويبهم أو تشتيتهم أو تخفيض أعدادهم قدر الإمكان في دول الطوق، أي في الأردن وسوريا ولبنان.
البيئة الهادئة في الأردن
على الرغم من أن عدد اللاجئين الفلسطينيين فيها يتجاوز أربعة ملايين نسمة تحمل أغلبيتهم الساحقة الجنسية الأردنية، لا يمكن اعتبار مفردات قضية اللاجئين وحق العودة من أولويات السلطة في الأردن، ومن يتجول في مخيمات المملكة فلن يجد العلم الفلسطيني المرفوع فوق السطوح والأعمدة كلبنان وسوريا.
وليس خفياً على أحد أن قضية اللاجئين وحق العودة في الأردن هي قرار سياسي وليس شعبياً بالدرجة الأولى، وستظهر وتختفي وفق إرادة السلطة لا وفق إرادة الشعب أو تطور الأحداث. وهذا ما يؤثر على الثقل السياسي لفلسطينيي الأردن في القضية الفلسطينية.
لذلك لا يحمل المشرفون على عملية التسوية همّ فلسطينيي الأردن واحتمال عودتهم إلى فلسطين.
البيئة الكامنة في سوريا
كانت الحكومة السورية ترفض السماح لفلسطينيي سوريا بمغادرة البلد، وتمنع السفر من دون مبررات مقنعة جداً، حتى أصبح عدد اللاجئين الفلسطينيين نحو 630 ألفاً.
وعند بداية أحداث عام 2011 بدأت هجرة فلسطينيي سوريا مع السوريين، وبدأ الفلسطينيون يغادرون شرعياً أو خلسة عبر الحدود إلى لبنان والأردن، وكانت الذروة في بداية عام 2012 حيث دخل لبنان نحو 90 ألفاً منهم، غير أن أكبر عائق بوجه الخروج ومحاولة السفر بعد السلطة السورية هو عدم استفادتهم من الوثيقة السورية للسفر.
وبدأت محاولات الحصول على جواز السلطة من رام الله، ولكن المبلغ المطلوب كان مئات الدولارات (حسب الوسيط). أما اليوم فوصل سعر الجواز الفلسطيني الصادر عن السفارة الفلسطينية في سورية 10 دولارات فقط لا غير.
وباتت إجراءات الحصول على هذا الجواز سهلة لدرجة تثير الريبة. وقد نفت منظمة التحرير اتهامها بالدخول في “اتفاق دولي” لإخراج فلسطينيي سورية، وأكدت تمسكها بحق العودة.
فلسطينيو سورية في لبنان الذين بلغ عددهم في السابق 90 ألف لاجئ هم اليوم نحو 17 ألف لاجئ فقط. معظمهم جعل لبنان محطة سفر إلى تركيا أو مصر أو ليبيا ومنهم إلى أوروبا. فضلاً عن الذين غادروا سوريا في البر إلى تركيا. إذ يُقدّر عدد الفلسطينيين في سورية اليوم بـ350 ألفاً، أي أن نحو نصفهم قد غادر سورية.
البيئة الطاردة في لبنان
منذ البداية جرى التضييق على الفلسطينيين في لبنان فحُرموا حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية مثل حق العمل وحق التملك وحق الاستشفاء وحق التعليم، ما جعل عدد الفلسطينيين الذي تضاعف تسع مرات في العالم، يتضاعف في لبنان أربع مرات فقط. ولامس عددهم وفق سجلات مديرية الشؤون السياسية واللاجئين في وزارة الداخلية اللبنانية 600 ألف، بينما ناهز 470 ألفاً في سجلات وكالة الأونروا و35 ألفاً غير مسجلين لاجئين.
هؤلاء الـ500-600 ألف هاجر معظمهم وبات تقدير المسح الاقتصادي والاجتماعي للجامعة الأمريكية عام 2016 لأعدادهم يناهز 250 ألفاً فقط. هذا المسح أفاد أيضاً بأن 66.4% من فلسطينيي لبنان تحت خط الفقر و6% تحت خط الفقر المدقع، و56% عاطلون عن العمل و33% يعانون أمراضاً مزمنة و95% من دون تأمين صحي.
وفي الوقت الذي يهول فيه البعض من أعداد فلسطينيي لبنان (اليمين المسيحي)، ويقدرونهم بـ700 ألف، أجرت لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني بإشراف المركز الفلسطيني للإحصاء في رام الله وبدعم غربي إحصاء في أغسطس/آب 2017 جاءت نتيجته مفاجئة واعتبرها البعض لتسهيل ابتلاع مشروع التوطين، إذ كان العدد 174422 لاجئاً فلسطينيا.
هنا كان الملاحظ أن السنوات الأربع التي تلت هذا الإحصاء انخفض عدد الفلسطينيين في لبنان، فقد شهدت ضغوطاً شديدة على المجتمع الفلسطيني في لبنان، بدءاً من قرار وزير العمل كميل أبو سليمان في منتصف عام 2019 منع الفلسطينيين من العمل، وعدم التغاضي عنهم، وشنّ حملة شرسة عليهم. تلا ذلك أحداث الثورة اللبنانية وتعطُّل الأشغال في البلد، ثم جائحة كورونا والشلل شبه الكامل، ومحاولة ضرب وكالة الأونروا في “صفقة القرن”، ثم انفجار مرفأ بيروت، وانهيار العملة، وفقدان السلع والمحروقات والأدوية وارتفاع الأسعار. كل ذلك شكّل دوافع إضافية لهجرة الفلسطينيين من لبنان، وتضاعفت نسبة الفقر إلى 95% والبطالة إلى 90%.
بعد كل هذه الأحداث أصبح الرقم المتداول لأعداد الفلسطينيين في لبنان 150 ألفاً فقط لا غير، وإذا أخذنا بالاعتبار ما تسرب سابقاً عن خطط دولية لتوطين مائة ألف فلسطيني في لبنان وإعادة كبار السن إلى فلسطين فإن الرقم المستهدف يقترب بسرعة.
باختصار إن ما يجري في دول الطوق يؤكد أن عملية التفريغ والتذويب والتشتيت ماضية، وأنهم ينتظرون أن تؤتي أكُلَها. بانتظار إحصاء جديد يضع قطار التوطين و”حل” مشكلة اللاجئين على السكة من جديد.