الإعلامي والباحث الفلسطيني يونس أبو جراد يكتب في رثاء القائد هنية
في تتبعنا لخطاباته المؤثرة العميقة نجد أنفسنا أمام إنسان من طراز فريد، قائد مكتمل الأركان، وبليغ يعب من نهرٍ جارٍ. بلاغته أبهرت من استمع لخطاباته التي وصفت ومثلت ألم شعبه كما لو كان يتنزل عليه وحده، وفتحت نوافذ الأمل كما لو كان صانعها بيديه الطريتين المباركتين.
ما استمعت إلى خطاب منه إلا وشدني للنهاية، وكأن كل كلمة تخرج من أعماق روحه، وجعه، انتمائه، وشخصيته القرآنية الفريدة. بدأت رحلتي مع خطاباته حين كنت طالبًا في الجامعة، إبان انتفاضة الأقصى المباركة، وكنت معجبًا به جدًا، من بين كل القادة الذين كانوا يتحدثون ببلاغة البندقية وإحساس مقاتل يعشق الشهادة.
يحملك بتموج صوته الرنان الذي يشكل كل كلمة بما يجعلها تخترق القلب وتترك أثرها لزمن طويل، ويصعد إلى علوٍّ شاهق بكل ما في المتلقي من خلايا انتباه وجوارح إحساس قبل أن يهبط بسلام وقد أرست كلماته قواعدها بجملة حاسمة لم تكن إلا هي ليختم بها فكرته المتوشحة بالإبداع والإبهار.
وعلى عكس ما كان هادرًا في خطاباته التي شكلت منعطفات المراحل التي مرّت بها القضية والشعب والحركة التي قادها بكل اقتدار وبسالة، كانت شخصيته الهادئة وصوته المعبق بندى التواضع والحنو حين يتحدث مع إخوانه وضيوفه في اللقاءات المغلقة.
لقد كان ساحرًا، جذابًا، مبهرا في اقترابه وابتعاده، وكان يقدّر الكلمة ويحفرها في أعماقه حتى تلتحم بنفسه وروحه ووجدانه ثم تخرج بكل بهائها لتصافح المتلقين واحدًا واحدًا كما كان يفعل حين يلتقى الناس، فيسلم عليهم ويبتسم في وجوههم وكأنه يعرفهم جميعًا.
وعلى أكمل وجهٍ من وجوه الاصطفاء الإلهي، كان لابد لكل كلمة أن تخضب بالدم قبل أن يرتقى عاشقها إلى الفردوس الأعلى. كل كلمة قيلت كانت على موعد مع دفقة من دمه الزكي، يرصعها بتوقيعه الأبدي، ليؤكد أن بوسع القائد السياسي أن يكون صادقًا إلى حد الاستشهاد في سبيل كلماته، وأن يستميت في ترسيخها استماتة مستبصرة، ثمنها ليس أقل من الروح. ليؤكد أن الكلمات ليست فقط سلاحًا للسياسيين المراوغين، الذين يتغذون على آلام شعوبهم، بقدر ما هي منارات تنوّر دروب الحرية والاستقلال، وسلاحًا يحارب به المقاتلون الحقيقيون الظلام والجهل والسردية الزائفة لمحتل يخشى من كلمة وبندقية.
يا سيد الرجال، وقائد المقاومة، ما طورت المقاومة من سلاحها محلي الصنع، إلا وطورت بذكائك الحاد وانتمائك الراسخ مشاعرك ولغتك وأساليبك البلاغية ومفرداتك المقاتلة جنبًا إلى جنب مع البندقية والقذيفة والقنبلة، لم تكن تقبل إلا أن تحشو قذائف الحق ببلاغة حسّان بن ثابت، وتدفع عن عدالة قضيتك ومظلومية شعبك أكاذيب المحتلين مستعينًا بروح القدس. حتى إذا كان طوفان الأقصى، سجدت شكرًا لله، ثم خطبت بكل ما فيك من أنفة وفروسية، فطوعت اللغة لتصير أوفى ما تكون للفئة القليلة التي ستغلب الفئة الكثيرة بإذن الله.
قلتَ يا سيد الرجال، لن تسقط القلاع، ولم تسقط، وقد سيجها أبناء شعبك العظيم بصدورهم، ودافعوا عنها بلحمهم الحي. قلت يا سيد الرجال، لن تخترق الحصون، ولم تُخترق، بل اخترق أبطالك الاستراتيجية الصهيونية حتى أخلوا بتوازن الدويلة المارقة. قلت يا سيد الرجال، لن تُنتزع المواقف، ولو كان ثمن انتزاعها انتزاع لحومنا عن عظامنا، ولم تُنتزع المواقف. ما أصدق قولك، ما أنبل فروسيتك، ما أبرَّ أيمانك.
أرهبوك وإخوانك حتى تعترف بدولتهم المنبوذة، فقلت بكل ما في قلبك من عزم: لن نعترف “بإسرائيل”. رغبوك وإخوانك أن تعترفوا، فرددت بكل ما فيك من وطنية خالصة وإيمان عميق: لن نعترف “بإسرائيل”. حتى أصبح شعار مرحلة، وموقفًا يعبر عن شعب عظيم حاول سياسيو الصدفة أن يسرقوا تمثيله ومواقفه باتفاقات هزيلة لا قيمة سياسية ووطنية لها.
يا سيد الرجال، وقائد المقاومة، قلت فصدقت، صمدت فأبهرت، جاهدت فأبدعت، استشهدت فارتقيت، وما زالت كلماتك ترن في أسماعنا، وتهز وجداننا الجمعي، وتروي عطشنا للعزة والإباء والكرامة الوطنية والسمو الأخلاقي.
ستفتقدك المنابر، سيشتاق الأثير لبحة صوتك، لتلاوتك العطرة، ستفتقدك العيون التي كانت تلاحقك وأنت تصدح بالحق وللحق، ستفتقدك الأيادي التي صافحتك والتي لم تصافحك، ستفتقدك فلسطين يوم استقلالها، والقدس يوم تتزين بثوب الحرية، والضفة الغربية يوم تنتظرك عابرًا منها لمعانقة حبيبتك القدس، ولا تأتي! ستفتقدك الأرض المحتلة ومخيمات الشتات التي كنت فارسها الوفي. أما غزة فستبقى تنظر لساعة يدها في انتظار ساعة عودتك إليها يا ابن شاطئها الهدار الذي لا يهدأ، ستنتظر غزة عودتك ليصطف الناس في استقبالك كما عودوك دائمًا على وفائهم لك ولخيارك ومقاومتك الباسلة، ستنتظرك غزة التي أحبتك، التي خرّجتك ممثلًا لها ولفلسطين أمام عالم قتلك بصمته وخذلانه ومشاركته في الجريمة.
طبت حيًا، وطبت شهيدًا يا سيد الرجال، وقائد المقاومة ..
“وإلى لقاءٍ تحت ظل عدالةٍ قدسية الأحكـام والـميزان”