قدس من؟
طه كلينتش
وُلد والد جدي، الملا يوسف رحمه الله، عام 1880. وتوفي عام 1973 عن عمر يناهز 93 عامًا بعد أن عاش حياة طويلة. ويحمل والد جدي قصة غريبة جدًا؟
هذه القصة تهز مشاعري في كل مرة أتذكرها، وتؤثر بي بعمق، وربما تحدد اتجاهي داخل عقلي الباطن: تزوج والد جدي الملا يوسف من سيدة تدعى سيلفي.
كان زواجهما سعيدًا وأنجبا خمسة أطفال: سليمان وخليل(جدي والد والدي) وإبراهيم وفاطمة وراضية.
جدنا الأكبر كان يعيش حياة عادية ويقضي فصل الشتاء في منطقة بوزيازي بمرسين والصيف في هضبة تيرساكان، وقد تعطل هذا النظام العائلي بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914. وبسبب التعبئة العامة المعلنة في جميع أنحاء الدولة العثمانية، تم إرسال جميع الرجال الذين يستطيعون حمل البنادق إلى الجبهة.
كان ضباط الجيش يجوبون المدن والبلدات، وقاموا بتجنيد أي شخص يصادفونه. وكان الملا يوسف (34 عامًا حينها) من بين هؤلاء المجندين. وتم إرسال الجنود إلى جبهات مختلفة، وكان نصيب الملا يوسف أن تكون خدمته في القدس.
بعد وقت من وصوله إلى الجبهة، مرض الملا يوسف وأصبح طريح الفراش بسبب وباء -ربما الكوليرا.
ودخل لمدة ستة أشهر، مستشفى ميداني أنشأه الألمان في القدس.
وفي تلك الفترة، عندما بدأت الدولة العثمانية تتلقى الهزائم على جبهات مختلفة، كانت مسألة رعاية الآلاف من الجنود الذين يقبعون خلف الخطوط الأمامية بسبب انتشار الوباء يُشكل عبئا كبيرا.
عندئذ تقرر تسريح كل جندي قادر على المشي. واعتبر المرحوم الملا يوسف بصحة جيدة بعد مشيه خطوات أمام طبيب الكتيبة وتم تسريحه.
يجب أن يكون هنا العام 1916. وبعد مغادرة القدس، جاء الملا يوسف إلى هاتاي مروراً بفلسطين ولبنان وسوريا. وتمكن من الوصول إلى مسقط رأسه بعد مروره بأضنة ثم مرسين.
بالنظر إلى عشرات الآلاف من أبناء الأناضول الذين لم تعرف قبورهم اليوم والذين لم يتمكنوا من العودة أثناء التعبئة، فهذه نعمة عظيمة أنه عاد حيًا.
عندما ننظر إلى العديد من الصعوبات التي يتم مواجهتها في الطرقات كالطعام والشراب والمأوى والسلامة في ظروف الحرب، يمكن اعتبار عودته معجزة.
من المستحيل أن نصف بالكلمات درجة الفرح التي شعر بها عندما طرق باب منزله بعد شهور من المشي.
وبعد هدوء نسبي في مرتفعات مرسين في فترة نهاية الحرب العالمية الأولى، أعادوا تجنيد الملا يوسف خلال حرب الاستقلال.
وهذه المرة، تم إرسال جدنا إلى معركة صقاريا وشارك في القتال وأصيب بجروح خطيرة وواجه الموت. لكنه تمكن من النجاة من هذه الحرب أيضًا.
وعندما تأسست الجمهورية وبدء عهد جديد في تركيا، كان الملا يوسف قد عاد بالفعل إلى حياته الهادئة في منطقتي بوزيازي وترساكان.
بكل تأكيد، لم أستطع مواكبته لكن منذ أن عرفت قصته، فإن ذاكرتي مزينة دائما بذكرياته.
سُئلت كيف بدأ اهتمامك بالجغرافيا الإسلامية؟ أجيب عن طريق وصف مغامرة الملا يوسف في القدس وما جرى بعدها من أحداث معه، وأضيف: “بدأت قصتي قبل ولادتي”.
وتذكرت جدي الأكبر الملا يوسف هذه الأيام بمناسبة الكتاب الشهير “زيتين داغه” (جبل الزيتون) ” للكاتب فالح رفكه أتاي”.
خلال عطلة نهاية الأسبوع، وبينما كنت أستعد لرحلتي إلى القدس، بدأت بإعادة قراءة كتاب “جبل الزيتون” .
من يدري كم عدد الأجيال التي ابتعدت عن العالم الإسلامي بسبب التعبيرات والتصورات المبتذلة والعدائية اتجاه العرب، والتعليقات المتعالية حول الشرق الأوسط التي كانت موجودة في كتاب “العبادة” (كولت) ، الذي يعد أحد النصوص الرئيسية التي شكلت تصورات النخب العلمانية في تركيا الحديثة فيما يتعلق بالعالم الإسلامي.
من يدري كم عدد الأجيال خرجوا من “العبودية” ودافعوا عن أنفسهم “كمواطنين”. ووضعوا جبل الزيتون كتابًا بجانب السرير وصفعوا “الأمة” بمفهوم “الأمة”
يستخدم الفالح رفقي مصطلح المسرح الغربي”عندما يصف القدس التي كان يراها من نافذته الخاصة المطلة على جبل الزيتون. إن القدس عنده بمثابة البؤس والغدر لفوضى. والمدينة المنورة هي أيضًا سوق آسيوية حيث يقوم السكان باستمرار بسرقة الزوار. من الواضح أن هذه الصور ليست مجرد تفسيرات وملاحظات، بل تعكس نظرة عالمية.
أنا صوتي لقدس جدي الأكبر، الملا يوسف. ولصالح القدس التي ترمز إلى الكثير من المعاناة، والتي حدث بها العديد من النكسات والهزائم، لكنها رغم كل شيء لا تفقد شيئا من جلالتها وجمالها.
الجواب على السؤال الذي طرحته في العنوان هو كما يلي: القدس هي سيدنا عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي والسلطان سليم الأول. القدس هي المدينة التي تشرق كنجمة فوق الأزمنة في أطلس إيمان أجدادنا.