كيف تتدارك تركيا أثر تراجع الليرة على مواطنيها؟

أحمد ذكر الله – أكاديمي وباحث اقتصادي

تتباين التحليلات التي تحاول تفسير التراجعات المستمرة لليرة التركية خاصة أن نسب هذه التراجعات فاقت تراجعات عملات كل دول الاقتصادات الناشئة بلا استثناء، بالإضافة إلى توازي تلك التراجعات مع انتعاش ملحوظ للاقتصاد، وتعاف لمعظم قطاعاته الاقتصادية وفي مقدمتها القطاعات الإنتاجية التي حققت نمواً ملحوظاً في العام الحالي، عوضت به خسائرها جراء تداعيات انتشار فيروس كورونا.

وتركزت التفسيرات حول أسباب تراجع الليرة بهذه النسب الكبيرة حول ثلاثة تفسيرات رئيسية، أولها التفسير التآمري، والذي ينطلق من العداء التاريخي بين الدولة التركية والقوى الاستعمارية السابقة الكبرى، والتي ترفض قطعيا انعتاق الاقتصاد التركي من التبعية للهيمنة العالمية، ليس فقط هروبا من هواجسها القديمة أثناء خضوعها للدولة العثمانية، ولكن أيضا خوفاً من فقدانها سوقا تقليدية خاصة لسلع الصناعات الدفاعية، والتي باتت تركيا على أبواب قفزات نوعية في إنتاجها وتصديرها، مما يهدد ليس فقط بفقدان السوق التركية ولكن أيضاً بفقدان أسواق أخرى استطاعت تركيا اختراقها مؤخراً.
ويركز التفسير الثاني حول استهداف الرئيس رجب طيب أردوغان خفض سعر الفائدة والذي تجلى في تصميمه على إقالة محافظي البنك المركزي بصورة متتابعة سعيا للوصول إلى سياسة نقدية تخفض سعر الفائدة، إنعاشاً للاستثمار المحلي وتشغيلا لعناصر الإنتاج العاطلة عن العمل وفي مقدمتها العمالة التي تضررت بشدة جراء فيروس كورونا.

ورغم أن انتعاش الاقتصاد استعاد ما يزيد عن مليون فرصة عمل من اجمالي 1.7 مليون فرصة عمل فقدها جراء كورونا، إلا أن الأمر من وجهة نظر الرئيس التركي يتطلب المزيد من شحذ القوى الاستثمارية، وأن خفض سعر الفائدة وحده كفيل بهذه المهمة، وأن الليرة ستعاود استعادة عافيتها تدريجيا مع تصاعد القوى الاستثمارية والإنتاجية.

أما التفسير الثالث لتراجعات الليرة فيتركز حول تعمد السلطة خفض سعر الفائدة رغم معدلات التضخم المرتفعة، وهو الأمر الذي ثبت ليس نظريا فقط وإنما بتجربة محافظي البنك المركزي المقالين أنه سيتسبب في المزيد من تراجع سعر الصرف، وبالتالي فإن الإدارة تعي جيدا مغزى توجيه السياسة النقدية نحو خفض سعر الفائدة مع تجاهل ارتفاع معدل التضخم، مما يعني أن انخفاض الليرة متعمد.

ويبرر هؤلاء هذا التعمد، بالتغيرات العالمية التي أعقبت انتشار فيروس كورونا والتي ستولد شكلا مستحدثا للعولمة، وعلى الرغم من عدم الاستقرار على طبيعة هذا الاستحداث، إلا أن التغيير بات حتميا من وجهة نظر القوى الكبرى، وترجيحه الحرب التجارية الصينية الأميركية، علاوة على العديد من الأزمات التي خلفتها كورونا، ومن هنا فإن الدولة التركية ترى أن هذا الاستحداث فرصة ربما لن تتكرر مرة أخرى لخلق موضع ومكانة جديدة لائقين بالطموح التركي المتصاعد.

وبالتالي فإن انخفاض الليرة سيعمل على تآكل قدرات الاستهلاك المحلي وتوفير قدر من المنتجات الموجهة للسوق الداخلية وإعادة توجيهها نحو التصدير، بالإضافة إلى تشجيع تشغيل الإنتاج المحلي إلى حدوده القصوى، وهو الأمر الذي رفع تطلعات التصدير إلى ما يزيد عن 210 مليارات دولار في العام الحالي، وبلوغه 300 مليار دولار العام القادم، بعد أن كانت الخطة الرسمية للدولة تستهدف بلوغ 250 مليارا بحلول عام 2024.

إجراءات حكومية

رغم تعدد التفسيرات السابقة، وبغض النظر عن الانتقادات الموجهة إليها، فإنه من المؤكد أن تراجعات الليرة أصابت جودة حياة المواطن بصفة عامة، وأثرت سلبياً وبشدة على مستوى معيشة الطبقات الفقيرة والمتوسطة، والتي مثلت دوما النجاح الأكبر الذي تتباهى به حكومة حزب العدالة والتنمية، وهو الأمر الذي يتطلب تبني الدولة لمجموعة من البرامج والإجراءات التي توقف نزف مستوى المعيشة لمواطنيها.

وبالفعل بدأت الدولة التركية بعضا من هذه الإجراءات في الفترة الأخيرة، حيث تعهد الرئيس أردوغان بعدم تحميل المواطن تبعات تزايد أسعار الطاقة عالمياً، وأن الدولة ستتحمل معه بعضاً من هذه التبعات، وفي هذا الإطار التزم باستمرار تقديم الغاز الطبيعي للمواطنين بأسعار مدعومة بنسبة 75%، وبسعر أقل من أي دولة أوروبية أخرى.

كما وعد الرئيس المواطنين بأنّ الدّولة لن تتخلّى عن توازن المؤسسات العاملة في قطاع الطاقة، ولن تتسبب في معاناة العائلات، وقرر خصما بنسبة 2.7% على حصّة استهلاك الكهرباء، كما قرّرت الحكومة أيضا إلغاء تخفيضات صندوق الطاقة إلى 0.7%، والتي تم تخفيضها في شهر يناير/كانون الثاني الماضي إلى 1%.

كما أكد بكر ماك دميرلي، وزير الزراعة والغابات التركي، أنه تمت زيادة حجم الدعم الزراعي من 12.9 مليار ليرة في عام 2017، إلى 25.8 مليار ليرة لعام 2022، في محاولة الحفاظ على أسعار السلع الزراعية في ظل تنامي أسعار الأسمدة والمبيدات عالمياً.

كما نشطت الحكومة التركية مؤخراً في الرقابة على أسواق التجزئة الكبرى، وفي إطار حملاتها المكثفة في الرقابة على الأسعار فرضت غرامات مليارية على سلسلة محلات تجارية كبرى بعضها محسوب علي الحكومة نفسها، بعد ثبوت تعمد هذه السلاسل رفع الأسعار بصورة مبالغ فيها، كما أعلن جهاز حماية المنافسة التركي.

كما ينتظر الأتراك قريبا صدور قرار الحد الأدنى للأجور، والذي ستعبر مقدار الزيادة به عن جدية الحكومة في تلافي تآكل القوى الشرائية للعملة المحلية، خاصة بعد رفع الحد الأدنى لأجور العاملين 21.56 بالمائة للعام الحالي، وبما يعادل زيادة 500 ليرة كاملة على هذا الحد مقارنة بالعام السابق.

ولأن معدلات التضخم المحلي في العام الحالي أعلى من العام السابق، فإن الأتراك يأملون في زيادة معتبرة لهذا الحد تعوض على الأقل فقراءهم جزءا من المستوى المعيشي المفقود.

خطوات ليست كافية

من المهم الإقرار بأن إرهاصات الاجراءات التركية بوادر جيدة، وتعبر بوضوح عن رغبة حكومية جادة في تعويض المواطن التركي بعضا من مستوى معيشته المتراجع، ولكن يبدو أن الأمر يحتاج إلى برامج متكاملة تحتوي على حزم من الإجراءات السريعة، لا سيما أن الوقت المتبقي على الانتخابات لا يكفي لشعور المواطن بنتائج مرضية مهما كان السبب الحقيقي وراء تراجع الليرة.

ومن المهم كذلك الإشارة إلى خفض معدلات الفقر المدقع بالبلاد العام الحالي، إذ قلّ معدل الذين يكسبون أقل من 1.9 دولار في اليوم، من 2.1% إلى 0.4%، وكذلك انخفاض معدل الفقر من 12.2% إلى 8.2%، هو حديث لا يتواكب مع ثورة تطلعات المواطن التركي والتي فجرتها إنجازات حزب العدالة والتنمية.

أضحت التجربة التركية أملاً للعديد من الشعوب المطحونة حول العالم، كما باتت محلا للتشكيك والاستهداف من القوى المضادة لحرية الشعوب، والتي تتلهف على سقطة تركية تسوقها لشعوبها المكلومة للانتقاص من الإنجاز التركي، ولن تجد أفضل من تراجع جودة حياة المواطن التركي ذريعة لتحقيق مآربها، الأمر الذي يستوجب سرعة تحرك الحكومة التركية وببرامج شاملة لتعويض الأثر السلبي لسياساتها الاقتصادية على مواطنيها.

Exit mobile version