ما بعد الطوفان واليقظة التاريخية: حين يستيقظ التاريخ من سباته

إيمان سلمي – غزة
منذ عقود، كانت القضية الفلسطينية تُدفع عمدًا إلى زوايا النسيان، تُغلَّف بالمصطلحات الباردة والتسويات العقيمة، بينما يُترك أصحابها بين مطرقة الاحتلال وسندان التجاهل الدولي.
ولكن كما تُثبت دورة التاريخ، تأتي لحظات لا يكون فيها النسيان خيارًا، لحظات تُعيد ضبط إيقاع الوعي، وتضع الحقيقة أمام العالم عارية من كل التزييف.
“طوفان الأقصى” كان تلك اللحظة.
لم يكن الطوفان مجرّد حدث عسكري تلته حرب عادية، بل كان نقطة تحوّل في الإدراك العالمي، إيقاظًا لما كان نائمًا تحت ركام العقود.
فجأة، عاد العالم ليرى فلسطين كما هي: قضية تحرر من احتلال، لا مجرّد صراعٍ عابر بين طرفين متكافئين.
عادت الأعلام الفلسطينية ترفرف في الميادين العالمية، وارتفع الصوت الشعبي ليكسر جدران الصمت السياسي والإعلامي، مُحدثًا زلزال وعيٍ عالمي، وشرخًا كبيرًا في سردية المحتلّ المشوّهة.
وربما كان أعظم إنجاز للطوفان أنه منع طمس الذاكرة الفلسطينية لدى الجيل الجديد.
ففي زمنٍ تحاول فيه القوى المهيمنة إعادة صياغة التاريخ بمُسمّيات زائفة، جاء الحدث ليُعيد الجيل الشاب إلى جذوره.
أصبح الحديث عن مجزرة دير ياسين، وصبرا وشاتيلا، ومجزرة جنين، ليس سردًا بعيدًا، بل سياقًا حيًّا يتجدد كل يوم.
لأول مرة منذ عقود، وجد الإعلام الغربي نفسه أمام معضلة غير متوقعة:
لم يعد بإمكانه فرض روايته دون مقاومة.
فمنصات التواصل الاجتماعي أصبحت ساحة معركة موازية، يُكشَف فيها التضليل، وتُصحَّح الأكاذيب فور نشرها.
بات واضحًا أن الرواية الرسمية التي تُبرر الاحتلال لم تعد تُقنع إلا من يُريد أن يُصدّقها عن عمد،
فقد أزال الطوفان ستار العمى عن أعين العالم الغربي.
والسؤال الكبير الآن:
هل شكل الطوفان نقطة تحوّل دائمة؟
الواقع يقول إن الاحتلال لم يعد كما كان، ولم يعد الدعم المطلق له أمرًا مسلَّمًا به كما في الماضي.
من ساحات الجامعات إلى قاعات البرلمانات، هناك تغيير في الخطاب، وهناك لغة جديدة بدأت تفرض نفسها.
قد لا تكون هذه التحولات كافية لإنهاء الاحتلال غدًا، لكنها بالتأكيد جعلت معركة التحرير أكثر وضوحًا، وأقرب خطوةً مما كانت عليه.
لم يكن الطوفان مجرد عملية، بل كان إعلانًا أن التاريخ لم يُدفن بعد،
وأن الشعوب حين تستيقظ، لا يمكن إعادتها إلى حالة السُبات.
قد يحاول البعض إعادة فرض الصمت،
لكن الصرخة التي أطلقها الطوفان لا تزال تتردد،
ولن يكون ما بعده كما قبله،
فالتاريخ يُكتب الآن، ولكن هذه المرة… بأيدٍ فلسطينية.