لقد تابع العالم كيف تصاعدت الأحداث بعد محاولة حكومة الاحتلال طرد 28 عائلة فلسطينية من حي الشيخ جرّاح، ثم محاولة تفريغ بعض الساحات في المسجد الأقصى من أجل السماح للمستوطنين المتشددين المتدينين أن يدخلوا ويقيموا احتفالاتهم داخل ساحة المسجد الأقصى.
ولئن كانت الاعتداءات من المتشددين اليهود مستمرة منذ وقت طويل فإنها ازدادت هذه المرة، حيث قامت حكومة الاحتلال بدعمها وتقديم التسهيلات هذه المرة، وذلك من أجل أهداف شخصية لبنيامين نتنياهو رئيس وزراء دولة الاحتلال ليحافظ على موقعه في رئاسة الوزراء، ممَّا جعل الاستفزازات والاعتداءات أكثر بكثير من المرات السابقة، خاصة أنها حصلت في شهر رمضان وفي داخل المسجد الأقصى.
في البداية شاهد العالم كله الاعتداءات في الشيخ جرّاح وبالمسجد الأقصى عبر وسائل جديدة، ففي ظل ثورة التكنولوجيا والاتصالات التي لم تكن موجودة في حروب سابقة بهذا الشكل دخلت وسائل التواصل الاجتماعي المعركة، حيث ساهم النشطاء الفلسطينيون ببث عمليات الاعتداء على المسجد الأقصى، وتم نشر العديد من مقاطع الفيديو التي توثق الأحداث التي لم تكن تنقلها بقية وسائل الإعلام الرئيسية، ممَّا جعل الجميع يعيش الأحداث وكأنه موجود في ساحات المسجد الأقصى.
وقد ساهم انتشار الصور والمشاهد بسرعة في تأهب الشباب في مدينة القدس وفي مناطق فلسطين المحتلة عام 1948 وتوجههم إلى المسجد الأقصى من أجل الدفاع عنه. وبالتالي كان لوسائل التواصل الاجتماعي دور أكبر وأوضح هذه المرة من المرات السابقة، وساهمت في تأجيج رد فعل فلسطيني قوي في القدس لم يتوقعه الاحتلال الإسرائيلي.
ولتأكيد أهمية عامل وسائل التواصل الاجتماعي قام وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس بحضور اجتماع، في 13 مايو/أيار 2021، مع مديرين من شركتي فيسبوك وتيك توك لتقييد وصول المحتوى الفلسطيني. وقد قامت شركة تيك توك بعد اللقاء بإغلاق حساب شبكة القدس الإخبارية، وقام تطبيق إنستغرام التابع لشركة فيسبوك بإخفاء محتوى فلسطيني متضامن مع قضية الشيخ جرّاح.
ومع ذلك كانت المفاجأة الكبرى والعامل الجديد الذي دخل إلى معادلة الصراع بشكل واضح هو فلسطينيي 48، وهو المصطلح الذي يُطلق على مليوني فلسطيني بقوا يعيشون داخل إسرائيل منذ عام 1948، ولم يتم تهجيرهم من مدنهم حينها.
وعلى الرغم من التضييق المستمر عليهم فإنهم لم يتحركوا ضد سياسات إسرائيل العنصرية تجاههم منذ مدة طويلة. ولهذا اعتبر الاحتلال أنهم خارج معادلة الصراع، أو أن تدخلهم إن حصل لن يكون كبيراً. لكنه فوجئ باشتعال مدن مثل اللد وطبريا وعكا وغيرها. حيث أثبتوا أن المعركة إذا كانت من أجل القدس فهم مشاركون فيها.
ولم يكن في حساب حكومة الاحتلال أن المقاومة الفلسطينية التي تقودها حركة حماس في غزة سوف تدخل على خط المعركة الجارية في القدس، ولذلك لم تأخذ تهديدات المقاومة التي طالبت بوقف الاعتداءات في الشيخ جرّاح والقدس، على محمل الجد.
ولكن المقاومة ردت على الاحتلال ونفذت تهديداتها في مواجهة اعتداءاته. وقد قامت المقاومة الفلسطينية بتسمية العملية باسم “سيف القدس”، وعملت على مفاجأة العدو الإسرائيلي باستعداداتها وقدراتها، حيث دكت تل أبيب وأوقفت حركة الملاحة الجوية في مطار بن غوريون، وفي مطار رامون الذي يبعد نحو 250 كيلومتراً عن قطاع غزة الذي استخدمته إسرائيل بديلاً عن مطار بن غوريون، حيث قامت المقاومة لأول مرة باستخدام صاروخ عياش 250 الذي تم إنتاجه محلياً تحت الحصار.
لقد كان العامل الجديد في هذه النقطة أن المقاومة في غزة لم تدخل الحرب بسبب فك الحصار عن غزة، أو بسبب الرد على اغتيال مسؤول عسكري لها في غزة، ولكن بسبب الرد على الاعتداءات على القدس والمسجد الأقصى، وبالتالي ربطت بين غزة والقدس على الرغم من الفصل الجغرافي الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي.
كما أن شبكة الأنفاق التي طورتها المقاومة الفلسطينية في غزة تحت الأرض، والتي يقدر طولها بنحو 500 كيلومتر، كان لها دور مهم في نجاح المقاومة في إطلاق الصواريخ دون أن تكون هدفاً مباشراً لطائرات الاحتلال.
كما تحصن بها قادة ومقاتلو المقاومة خلال المعركة التي استمرت 11 يوماً، ولم تستطع إسرائيل أن تصل إلى قيادات كبيرة من الصف الأول لحركة حماس.
وإزاء هذا الأمر توجه الجيش الإسرائيلي نحو قصف البيوت السكنية وقصف المدنيين ليشكل ضغطاً على الحاضنة الشعبية للمقاومة، ممَّا شكّل ضغطاً دولياً عليه، حيث برزت صورة دولة الاحتلال الحقيقية بشكل واضح أمام المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان والرأي العام الدولي، ممَّا جعل دولاً عدة تنادي بوقف الاعتداء على الفلسطينيين في غزة.
وفيما تعرض الاحتلال لضغط دولي في المرات السابقة فقد جاء الضغط هذه المرة بعد فترة ذهبية لدولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث استغلت إسرائيل فترة إدارة ترمب لتطبيع علاقاتها من خلال اتفاقيات أبراهام مع عدد من دول المنطقة مثل الإمارات والمغرب والبحرين والسودان، وحاولت مع السعودية ودول أخرى، ولكن المعركة الأخيرة أثبتت أن اتفاقيات أبراهام هي اتفاقيات هشة، وأن إسرائيل لا زالت منبوذة لدى شعوب المنطقة وسيكون من الصعب على الدول أن تعمّق علاقاتها مع دولة الاحتلال.
ولعل المهم هنا أن بعض الدول مثل الإمارات أنشأت علاقات أمنية مع دولة الاحتلال في سياق اعتبار الطرفين لإيران تهديداً مشتركاً، لكن هذه الدول شاهدت الآن أن إسرائيل لم تستطع أن توفر الأمن لنفسها أمام حركة مقاومة فلسطينية محاصرة منذ 17 عاماً.
من العوامل الجديدة أيضاً التي يمكن الوقوف عليها في هذه المعركة أن الموقف الأمريكي حتى لو حاول علناً التصريح أنه مع حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها وأنه يدعمها، إلا أن هناك تغييراً لا تخطئه عين المراقب الفاحص في التغيير في الموقف الأمريكي وفي وجود خلاف بين نتنياهو وبايدن، وأن هناك على الأقل فريقاً في واشنطن يعتبر حكومة الاحتلال عبئاً على واشنطن، خاصة أن تل أبيب حاولت تعطيل مباحثات الولايات المتحدة مع إيران في فيينا على العودة إلى الاتفاق النووي.
هذه العوامل جعلت دولة الاحتلال الإسرائيلي تظهر ضعيفة لأول مرة على مستوى الرواية والخطاب، وعلى مستوى الأداء العسكري والسياسي والإعلامي، وعلى مستوى العلاقات مع الولايات المتحدة.
لقد ارتبكت أمام تعدد جبهات المواجهة في القدس ومناطق فلسطينيي 48 وغزة، وأمام مفاجآت المقاومة. ولذلك سارعت نحو الرضوخ لطلبات وقف إطلاق النار أحادي الجانب قبل خروج الأمورعن السيطرة، سواء ميدانياً أو على مستوى علاقاتها مع الولايات المتحدة.
لا يعني هذا أن الأمور انتهت فهذه جولة واحدة من جولات قادمة محتملة، وينتظر أن نرى ماذا سيكون موقف الإدارة الأمريكية من اعتبار حماس الفاعل الفلسطيني الأكثر أهمية في هذه المرحلة، وهل سيقبلها النظام العربي الذي شارك في حصارها سابقاً أم لا؟