منذ بدء البنك المركزي التركي بسلسلة تخفيضات في أسعار الفائدة في وقت سابق من هذه السنة والليرة تتعرض لتراجع كبير أدى لخسارتها أكثر من 50 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار، في الوقت الذي تجاوز فيه معدل التضخم السنوي 21.3 بالمئة خلال الشهر الماضي.
وذلك نتيجة إصرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على أن منهاجيته القائمة بخفض أسعار الفائدة ستكون مفيدا للغاية لاقتصاد بلاده، داعيا لتحلي بالصبر لجني ثمار هذه السياسة الجديدة التي أثارت الجدل على نطاق واسع.
لكن ما الذي يريده أردوغان تحديدا من وراء هذا التوجه؟
والتي قد تكون في العرض التقديمي الذي وصل إلى مكتب أردوغان من كبير مستشاريه الاقتصاديين جميل إرتيم. ويسلط العرض الذي يحمل عنوان “النموذج الاقتصادي الجديد: الأسباب والفوائد”، الضوء على المشاكل الاقتصادية المزمنة التي واجهتها تركيا على امتداد العقود القليلة الماضية، والتي نجمت عن ارتفاع تكاليف الاقتراض وانخفاض أسعار الصرف.
تتلخص فكرة إرتيم الرئيسية التي عرضها مراسل ميدل إيست آي في تركيا رجب صويلو في تحقيق الاستقلال الاقتصادي، وأنه لا يمكن تحقيق هذا الهدف في ظل ارتفاع أسعار الفائدة وتطبيق سياسات صندوق النقد الدولي.
حيث خلص تقرير إرتيم إلى أن سياسة أسعار الفائدة المرتفعة أدت إلى انخفاض الصادرات وتراجع العمالة وارتفاع الواردات وزيادة الديون الخارجية واعتماد الدولة على الخارج، وهو ما أدى إلى الحاجة المستمرة إلى رفع أسعار الفائدة، والاستمرار في ذات الدائرة المفرغة.
ويقول إرتيم في عرضه التقديمي “نتيجة لذلك، تسجل البلاد عجزا متفاقما في ميزانيتها، وتعتمد على تدفق الأموال السريعة قصيرة الأجل، ويرتفع الدين الخارجي. هذا النموذج الاقتصادي يمهد الطريق لأزمات اقتصادية بسبب الاعتماد على الخارج”.
الحل الذي يقترحه إرتيم
يقول كبير المستشارين الاقتصاديين للرئيس التركي إن نموذجه الجديد القائم على خفض أسعار الفائدة سيضمن زيادة الصادرات وتقليص الواردات، مما يؤدي إلى فائض في الميزانية وارتفاع معدل النمو فضلا عن ارتفاع معدلات التوظيف. كما يعتقد أن هذه الاستراتيجية ستجعل الصادرات التركية أكثر قدرة على المنافسة في ظل انخفاض قيمة الليرة.
ويوضح إرتيم: “سوف نحفز الاستثمارات الأجنبية المباشرة بدلا من تدفقات الأموال الساخنة قصيرة الأجل، وسنعمل على استقرار التمويل الأجنبي. بهذه الطريقة سنصبح دولة أقوى ونحمي اقتصادنا من الصدمات المالية الخارجية”.
وقدم إرتيم في عرضه أمثلة على الأوقات التي انخفضت فيها قيمة الليرة سابقا، على سبيل المثال أثناء احتجاجات حديقة غيزي سنة 2013، وخلال محاولة الانقلاب سنة 2016، وبعد العقوبات الأمريكية سنة 2018 إثر اعتقال أحد القساوسة، وفي 2019 بعد عملية عسكرية تركية في سوريا. ويرى إرتيم أن التطورات الجيوسياسية تمثل أداة لتقويض الاقتصادات القائمة على التبعية للخارج.
وتشير مصادر مقربة من الحكومة التركية إلى أن هناك مؤشرات ملموسة تثبت فوائد سياسة خفض سعر الفائدة التي يتبناها كل من أردوغان وإرتيم.
منذ شهر آب/ أغسطس، خفّض البنك المركزي التركي سعر الفائدة بمقدار 500 نقطة أساس، من 19 بالمئة إلى 14 بالمئة. في الأثناء، ارتفعت الصادرات بنسبة 33 بالمئة في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، لتصل إلى 21.5 مليار دولار، في حين سجلت الميزانية فائضا قدره 3.16 مليار دولارفي شهر تشرين الأول/ أكتوبر.
بالإضافة إلى ذلك، انخفضت معدلات البطالة بنحو نقطتين مئويتين، من 13.1 بالمئة إلى 11.2 بالمئة في شهر تشرين الأول/ أكتوبر مقارنة بالسنة السابقة. كما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7 بالمئة في الربع الثالث من سنة 2021.
مع ذلك، لا تحظى السياسة الاقتصادية للحكومة بشعبية كبيرة لدى المستثمرين لأنها تزيد من التضخم، مع توقعات بأن تصل هذه السنة إلى 26 بالمئة على أساس سنوي.
ويقول إرتيم إن معدل الفائدة في تركيا، والذي يبلغ 14 بالمئة، هو أحد أعلى معدلات الفائدة في العالم، في الوقت الذي لا يتجاوز فيه المعدل في كل من البرازيل والمملكة المتحدة 10 بالمئة، ويعتقد أن تخفيضه سيساعد على التحكم بنسبة التضخم.
ويرى إرتيم أن السياسة الحالية المالية في تركيا قوية، حيث يبلغ معدل الفائدة على القروض المتعثرة 3.5 بالمئة، وهي القروض التي تُمنح في الغالب للشركات التي تعزز النمو والعمالة.
ويوضح إرتيم: “زاد عدد الشركات الجديدة بشكل كبير مقارنة بالسنة الماضية، مقابل إغلاق عدد ضئيل من الشركات. كما أن نسبة الشيكات بدون رصيد سجلت انخفاضا غير مسبوق، حيث بلغت 1 بالمئة في شهر تشرين الأول/ أكتوبر”.
كما تراهن الحكومة على ارتفاع عدد السياح الوافدين انطلاقا من شهر آذار/ مارس، مع تراجع تأثير جائحة كوفيد-19 على السفر. تجدر الإشارة إلى أن عدد السياح الوافدين ارتفع بنسبة 143 بالمئة في الربع الثالث من سنة 2021 مقارنة بالسنة المنقضية، ووصل عدد السياح إلى 13.6 مليون سائح، وبلغ الإنفاق 11.3 مليار دولار خلال هذه الفترة.
نقائص سياسة أردوغان الجديدة؟
يحذر الخبراء من أن انخفاض قيمة الليرة يشكل عبئا كبيرا على المواطن التركي العادي الذي يكافح حاليا لتغطية نفقاته في خضم ارتفاع الأسعار.
ارتفعت أسعار الخبز بنسبة 25 بالمئة في الشهر الماضي وحده، مما أجبر الناس على الاصطفاف في طوابير طويلة خارج المخابز التابعة للبلديات. كما ارتفعت أسعار الدقيق بنسبة 300 بالمئة في ظرف سنة، بينما شهدت أسعار السلع الأساسية الأخرى مثل الحليب والجبن ارتفاعا بنسبة 47 بالمئة بسبب ارتفاع التكاليف.
وحتى بعد أن رفع أردوغان الحد الأدنى للأجور بنسبة 50 بالمئة يوم الخميس، فإن المقدرة الشرائية تبقى منخفضة مقارنة بالدولار الأمريكي في بلد يستورد العديد من السلع الأساسية، بما في ذلك السيارات والوقود. ولا يتلقى أكثر من 42 بالمئة من العمال الأتراك سوى الحد الأدنى الرسمي للأجور.
في الشهر الماضي، انخفض الحد الأدنى للأجور إلى أقل من 300 دولار لأول مرة خلال عقد، ليصل إلى 4253 ليرة تركية (252 دولارا). وتشير التقديرات إلى أن أي عامل يتقاضى أقل من 13 ألف ليرة يعتبر تحت خط الفقر.
في غضون ذلك، ارتفعت أسعار المساكن بنسبة 40 بالمئة في شهر تشرين الأول/ أكتوبر مقارنة بالسنة الماضية، وظلت الأسعار ترتفع بشكل شبه يومي طوال الفترة الماضية.
كما تجاوزت أسعار السيارات الحد الأقصى بسبب الانخفاض المستمر في قيمة الليرة وأزمة نقص الإمدادات من الرقائق الإلكترونية العالمية. ورغم عدم وجود بيانات متاحة تشير إلى زيادة أسعار السيارات الجديدة والمستعملة، يعتقد البعض أن الزيادة وصلت إلى نحو 50 بالمئة.
علاوة على ذلك، لدى تركيا إجمالي احتياجات لإعادة التمويل لمدة 12 شهرا تبلغ نحو 170 مليار دولار. وباستثناء المقايضات مع البنوك المحلية، يمتلك البنك المركزي حاليا 37.9 مليار دولار من احتياطيات العملات الأجنبية. أُتلفت بعض الاحتياطيات في الشهر الماضي، حيث تدخل البنك خمس مرات في محاولة لتثبيت قيمة الليرة وسط التقلبات.
إلى جانب الدين الخارجي، هناك مسألة حيوية تتعلق بواردات الطاقة، حيث تعتمد تركيا على توريد الغاز الطبيعي والنفط بمعدل 99 بالمئة و93 بالمئة. ووفقا لبيانات التجارة الخارجية، دفعت تركيا مبلغ 41 مليار دولار مقابل واردات الطاقة سنة 2019. وفي سنة 2021، مع استمرار ارتفاع معدلات الاستهلاك المحلي، شهدت أسعار النفط والغاز الطبيعي العالمية ارتفاعا تجاوز 100 بالمئة.