هل تذهب تركيا إلى انتخابات مبكرة؟
سعيد الحاج
لا تكاد أحاديث الانتخابات المبكرة في تركيا تتراجع حتى تعود إلى واجهة الأجندة الإعلامية والسياسية في البلاد، خصوصًا على ألسنة أحزاب المعارضة أخيرًا، في حين لا يزال حزب العدالة والتنمية الحاكم وحليفه الحركة القومية يؤكدان أنه ليس هناك ما يفرض تبكير الانتخابات ومن ثم ستكون في موعدها المقرر عام 2023.
النسق والاستثناء
أتى حزب العدالة والتنمية إلى حكم تركيا بعد مرحلة من الأزمات الاقتصادية والانسداد السياسي وانهيار الحكومات الائتلافية، ولذلك كان من أهم أولوياته تحقيق الاستقرار السياسي بوصفه شرطا للتنمية الاقتصادية، وهو ما كان له.
وحرص الحزب على إجراء الاستحقاقات الانتخابية في موعدها، لتأكيد فكرة الاستقرار من جهة، وتجنبًا للتأثيرات السلبية لتبكير الانتخابات في اقتصاد البلاد، في ظل حالة الغموض التي تكتنفها.
ولذلك فقد أجرى الحزب الحاكم الغالبية العظمى من الانتخابات في موعدها بحيث باتت إحدى مبادئه في الحكم، في حين كان هناك استثناءات فرضتها ظروف استثنائية. ففي عام 2007 وإثر أزمة الانتخابات الرئاسية التي أدّت إلى حالة انسداد سياسي واحتقان شديد انتقل إلى الشارع، دعا العدالة والتنمية إلى انتخابات برلمانية مبكرة تغيرت معها تشكيلة البرلمان وأمكن تجاوز الأزمة وانتخاب رئيس الجمهورية، عبدالله غل آنذاك.
صعّبت التعديلات الدستورية التي رافقت إقرار النظام الرئاسي من إمكانية تبكير الانتخابات؛ فهي ممكنة فقط في حال دعا لها الرئيس أو 60% من أعضاء البرلمان، أي 360 نائبًا، وفي كلتا الحالتين ستكون انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة
وعام 2018 بعد إقرار الانتقال إلى النظام الرئاسي دعا زعيم الحركة القومية دولت بهتشلي إلى تبكير الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة للخروج من حالة عدم اليقين التي كانت تعيشها البلاد ولـ”قوننة” حالة النظام الرئاسي التي كانت سارية “فعليًا” بعد انتخاب أردوغان رئيسًا عام 2014 والاستفتاء الشعبي على النظام الرئاسي عام 2017، على حد قوله.
وبعد الانتخابات البلدية عام 2019 التي تراجع فيها العدالة والتنمية نسبيًا وخسر فيها بلديتي أنقرة وإسطنبول، تبنّت المعارضة التركية، وفي مقدمتها أكبر أحزابها الشعب الجمهوري، سردية أن شعبية الرئيس أردوغان وحزبه الحاكم في تراجع شديد فضلًا عن سياقات أخرى مثل الأزمة الاقتصادية، مما يدفع إلى ضرورة العودة إلى رأي الشعب وبالتالي تبكير الانتخابات.
عوامل وظروف
صعّبت التعديلات الدستورية التي رافقت إقرار النظام الرئاسي من إمكانية تبكير الانتخابات؛ فهي ممكنة فقط في حال دعا لها الرئيس أو 60% من أعضاء البرلمان، أي 360 نائبًا، وفي كلتا الحالتين ستكون انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة، وهذا يعني خسارة نسبية للرئيس والبرلمان على حد سواء، إذ سيخصم ذلك من المدة التي يحق له فيها البقاء رئيسًا، كما أن من لن يعاد انتخابهم من البرلمانيين سيخسرون مقاعدهم في المدة المتبقية كذلك.
ومن ثمّ، ووفق الظروف الحالية، فإنه ليس متوقعًا ولا منتظرًا أن يدعو الرئيس لانتخابات مبكرة؛ فهو لن يريد أن يخصم من المدة التي تحق له رئيسًا اليوم (حتى 2023) وفي حال أعيد انتخابه (حتى 2028)، كما أنه لا يريد إجراء الانتخابات في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد وتبعاتها السلبية على الاقتصاد بل يريد تأجيلها قدر الإمكان حتى تتحسن الأوضاع الاقتصادية، ولا سيما أن بعض مؤشراتها آخذة بالتحسن أخيرا بعد التغيرات التي طرأت على بعض المناصب المرتبطة بالملف المالي.
إن رغبة الرئيس في تجنب سيناريو الانتخابات المبكرة تبدو محميّة بتحالفه مع الحركة القومية الذي يشمل ما يقارب 340 نائبًا في البرلمان، في حين لا يتخطى تحالف المعارضة في حدّه الأقصى ومضافًا إليه نواب الشعوب الديمقراطية (غير المنضم إلى التحالف رسميًا) وبعض المستقلين 260 نائبًا، مما يعني أن تبكير الانتخابات سيتطلب بالضرورة تغيرًا جذريًا في البلاد في سياق ما، على صعيد وحدة العدالة والتنمية و/أو تحالفه مع الحركة القومية و/أو تطورات تسهم في تغيير الرئيس رأيه.
ويدرك كذلك أردوغان أن شعبية حزبه قد تراجعت نسبيًا في الآونة الأخيرة، وأنه لأول مرة أمام أحزاب خرجت من عباءته ويرأسها قياديون سابقون في حزبه، مما يدفعه إلى أولوية ترتيب بيته الداخلي قبل التوجه إلى أي استحقاق انتخابي، فنجده سرّع من مؤتمراته الحزبية على مستوى المحافظات ومن المفترض أن يعقد الحزب مؤتمره العام قريبًا.
وفضلا عن كل ما سبق، ما زال أمام البرلمان الحالي مهمة سنّ قانون جديد للأحزاب وآخر للانتخابات وما يتعلق بها مثل التحالفات والعتبة الانتخابية. ويشترط الدستور ألا تجرى الانتخابات قبل مرور عام على الأقل من أي تعديل يتعلق بها، وهذا يعني استبعاد إجراء الانتخابات المبكرة في 2021 كاملًا على أقرب تقدير.
احتمال قائم
إذن، مما سبق، ليس لدى التحالف الحاكم الرغبة ولا لدى المعارضة القدرة على الذهاب إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، ولا سيما قريبًا جدًا، في 2021 على سبيل المثال، بيد أن بعض السياسيين والإعلاميين الأتراك باتوا يفضّلون التمييز بين “الانتخابات المبكرة” التي تعني قرارًا وشيكًا بتبكير الانتخابات و”انتخابات قبل موعدها” أي تبكيرها قليلًا عن موعدها في 2023.
وهنا تستبعد معظم التقييمات الخيار الأول، في حين يرجح بعضها الخيار الثاني؛ بمعنى أن نسبة قليلة فقط من المتابعين والمحللين يتوقعون إعلانًا قريبًا عن انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، ونسبة لا بأس بها ترى أن ظروف البلاد قد لا تمكنها من الصمود حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2023، موعد الانتخابات الدورية. فما العوامل التي قد تدفع إلى ذلك؟
أولًا هناك الاقتصاد، إذ يمكن لأي أزمة اقتصادية إضافية وقوية أن تساهم في تبكير الانتخابات بحثا عن حل لها خصوصًا أنها قد تؤدي إلى ديناميات اجتماعية وسياسية كثيرة، أما في غياب أي أزمة جديدة وفي حال استطاعت الحكومة تحسين المؤشرات الاقتصادية فإن ذلك مستبعد إلى حد كبير.
وثانيًا هناك التحالف بين العدالة والتنمية والحركة القومية الذي يبدو متماسكًا حتى اللحظة في ظل حرص ملحوظ من الجانبين على استمراره بما يؤمن لأردوغان أغلبية في البرلمان رافضة للتبكير، إلا أنه لا يمكن إنكار تاريخ بهتشلي المتقلب بين المواقف السياسية، فضلًا عن مرضه وتقدمه في السن، بما يطرح احتمالية حدوث اضطراب في التحالف معه أو بعده، رغم أنه احتمال ضئيل حاليًا.
وثالثًا هناك سعي دؤوب من التحالفين الرئيسين في البلاد إلى التأثير في بعضهما بعضا بهدف الإضعاف والتشتيت، إذ يركز تحالف “الجمهور” الحاكم على علاقة الشعب الجمهوري بالشعوب الديمقراطية (المرتبط بدوره بالعمال الكردستاني) للتأثير في “الحزب الجيد” ذي الميول القومية، كما يسعى إلى جذب حزب السعادة إلى جانبه. في المقابل، يركز تحالف “الأمة” المعارض وكذلك الأحزاب المتشكلة حديثًا على دولت بهتشلي والحركة القومية للتأثير في صلابة تحالفه مع أردوغان.
ورابعًا هناك الأحزاب الجديدة، تحديدًا حزبي “المستقبل” و”التقدم والديمقراطية” بقيادة داود أوغلو وباباجان على التوالي، اللذين لا يشكلان حتى اللحظة تهديدًا حقيقيًا للعدالة والتنمية، بيد أنهما إن تمكنا من اجتذاب عدد من نواب العدالة والتنمية الحاليين -وهو احتمال ضعيف كذلك- فقد يسهمان في تعديل التوازنات داخل البرلمان. ومن جهة أخرى، قد يذهب أردوغان بنفسه إلى قرار الانتخابات المبكرة لقطع الطريق على هذه الأحزاب الصغيرة إذا ما شعر بأن فرصها -وفرص المعارضة في العموم- في 2023 ستكون أفضل، في سيناريو مشابه لفكرة تبكير الانتخابات البرلمانية في 2018 في محاولة لقطع الطريق على الحزب الجيد المنشق عن الحركة القومية.
ختامًا، وبالنظر إلى المعطيات الحالية والمتطلبات القانونية، تبدي المعارضة التركية خصوصًا حزب الشعب الجمهوري رغبة ملحّة في إجراء انتخابات مبكرة قريبًا، استثمارًا لتطورات عدة حدثت أخيرًا، إلا أنها عاجزة اليوم عن فرض ذلك. ومما يؤكد ذلك التصدعات الأخيرة في حزب الشعب الجمهوري الذي استقال من عضويته 3 أعضاء في البرلمان وينتظر أن يؤسس القيادي فيه ومرشحه السابق للانتخابات الرئاسية محرّم إنجة حزبًا سياسيًا سيؤثر بالتأكيد في وحدته وقوته بدرجة أو بأخرى.
في المقابل، فإن تصريحات أردوغان وبهتشلي، زعيمي التحالف الحاكم، تؤكد المرة تلو المرة أن هذا الخيار غير مطروح حاليًا وأن الانتخابات ستجرى في موعدها، بل إن بهتشلي حذّر قبل أيام من أن “محاولة فرض الانتخابات المبكرة على تركيا تستهدف جرّها إلى الفوضى”.
وعليه، فإن سيناريو تبكير الانتخابات قبل موعدها في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 مرهون بحدوث تطورات كبيرة في البلاد قد تؤدي إلى تغيير قناعة التحالف الحاكم خصوصًا أردوغان، أو تؤثر في متانة التحالف القائم بين العدالة والتنمية والحركة القومية، أو في خريطة الأحزاب وتوازنات التحالفات تحت قبة البرلمان، وتغيب أي مؤشرات حقيقية على أي منها حتى اللحظة.
ولذلك، وما لم تقع أحداث كافية لتفعيل أحد هذه المسارات الثلاثة، فإن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا ستجرى في موعدها خريف 2023، وإذا حدث تبكير فإنه سيكون جزئيًا وهامشيًا، بمعنى التبكير أشهرًا ربما وليس سنينًا بالضرورة.