ياسر عرفات الحضور القلق

إبراهيم المدهون
وعيت في انتفاضة الحجارة في عام 1987 على ياسر عرفات “أبو عمار”، لحظتها هتفت في المسيرات الصغيرة شكلناها كأطفال محاكاة للمسيرات الشعبية، لحظتها كنت أعيش المرحلة الابتدائية في الصف الرابع الأساسي، حينما هتفت بالروح بالدم نفديك يا أبو عمار، وفي ليلة مع بداية هذه الانتفاضة، وجدت صورة ياسر عرفات علقت على باب بيتنا وبيوت أزقتنا في مخيم الشاطئ، حيث توزع من الملثمين التابعين لفتح والمنظمة إعلانا لتحدي الاحتلال، وكان من يحمل صورة لابي عمار يحملها اقتناعا وحبا.

في تلك الأثناء تضج أشرطة الفيديو والكاسيت الوطنية بالأغاني والأهازيج المحتفية بعرفات وبطولاته وكلماته، واعتبر كنوع من أنواع العمل الوطني، وما زلت أذكر شعار كتب على مدرستنا الابتدائية: أبو عمار قالها.. ثورة واحنا رجالها.

هكذا، اختزلت الحكاية في شخص، والثورة في وجه، والقضية في اسم، فكان أبو عمار حاضراً منفرداً دون أي منافس؛ فشكّل في وعينا الجمعي الأول، ما يضع الرجل بمكانة فريدة لم يصلها أحد من رموز ثورتنا من قبله.
مع كل هذا الحضور والسطوة إلا أنني وجدت من يبغضه ويحاربه، يشكك به، يسخر منه، بل يصل الأمر بالبعض يخونه؛ فاحترت من هذه التركيبة العجيبة.. ما بين تقديسه في النفوس ورفعه مكانا في القلوب، كبطل فذ قلّ مثيله في حالتنا الوطنية الفلسطينية، وما بين من يقتله كرهاً وحقدًا ويحمله مسؤولية مآسي الفلسطينيين جميعاً، بيقين جامح من أنّه أبو الهزائم والكوارث..

لا ضير، فإنّ ما اكتشفته متأخراً أن هذه هي طبيعة الشخصيات الاستثنائية الحاضرة.

فأبو عمار خليط من التناقضات المجنونة تكاد لا تجتمع في شخص واحد، فهو محبوب ومكروه، ثائر ومستسلم، مقدام ومتراجع، مقاتل ومهادن، ثورجي وفوضوي، حنون وقاسي، شجاع وجبان، سلمي وحربي، واضح وغامض، أصولي وبرغماتي..

نعم، هو كذلك وغير ذلك.. كريزماتي بامتياز، يسيطر على أوراق القوة بحرفية وسطوة موغلة، يتنقل بمهارة بين الأشواك والأفخاخ، يتمتع بحس أمني وإعلامي وعسكري ووطني، صلب ومتغير وفق معادلات مدروسة صعبة ومعقدة، وحده يصنعها ويتعامل معها.

عرفات عبقري أعاد بناء منظمة التحرير وفق نسقه الخاص، وحاول جاهداً أن ينزعها من الهيمنة العربية وفي الوقت نفسه حافظ وصالها العربي، فهو صديق الملوك وعدوهم في الوقت نفسه، راوغ بمهارة في المكان الضيق والصعب، وفي الوقت المستحيل الضائع، نجح وأخفق، انتصر وانهزم، تقدم وتراجع، ربح وخسر، فأثار المزيد من الجدل حوله، وأعاد تركيبة العداوة والصداقة من جهة ثانية.

هيمنة ياسر عرفات احتكارية ففي عهده سميت الأسماء باسمه، فكانت منظمة عرفات، وفتح أبو عمار، وسلطة الختيار، فهو المتفرد دوماً مع شكل تجميلي لقراراته ومؤسساته، يتدخل بأدق التفاصيل، ويقرر بصورة مباشرة، لا ينام إلا قليلاً، يحتوي الجميع ليظلهم ويرعاهم، ويتحركون تحت سمعه وبصره.

كان لتجربة عرفات أن تنجح في السلطة والانتقال للدولة، في مشروع تحرري واسع لو أدرك المتغير الأهم في التركيبة الفلسطينية الجديدة، ولو تعامل مع حماس بشكل مختلف عن تعامله مع القوى الأخرى، فلو استخدم مبدأ الشراكة لا الاحتواء مثلاً لاختلفت المعادلات وكان لحماس اختصار الكثير من الوقت، لو تعاملت مع ياسر عرفات على فرض أنه قائد وطني كبير، لا منهزم متنازل ومستسلم.

وأظن أن عرفات وحماس وصلوا لهذه النتائج والأفكار ولكن في وقت متأخر، أو أن الأطراف الدولية لعبت ومازالت تلعب على المتناقضات؛ لهذا بعيد حصار عرفات وعزله وتنكب أصدقاؤه، كان خالد مشعل الأقرب له وعلى اتصال دائم به، كما قيل أنه لم يخفي سعادته بنضالات حماس ولا سيما في الكثير من عملياتها النوعية.

وبعد عقد من الزمان على استشهاد ياسر عرفات، مازالت القضية الفلسطينية تنسج وتدار بأسس ومعادلات صاغها عرفات وتركت بصمته، فكان استراتيجياً عميق الرؤية، وتكتيكياً تفصيلياً حاسماً، إلا أن حلمه لم يكتمل حتى اللحظة برفع العلم الفلسطيني على أسوار ومآذن وكنائس القدس..

Exit mobile version