يوم الأرض.. الجذور الضّاربة

أسماء كاظم عايش – ناشطة وكاتبة سياسية

صبيحة 30/آذار/1976، بدت أنياب العدو الغاصب وهي تنغرس طامعة في أراضينا، وكأنّها يتيمة بلا أهل، بل كأنّها أمٌّ بلا أبناء، ومنذ أن وطئت أقدام المحتلّ فلسطين وهو يستبيحها قطعة تلو قطعة، معربداً على تربتها الأصيلة التي تحمل في أعماقها جذور ممتدّة لآلاف السنين، ولكنّه لا يراها، وأنّى له أن يرى؟!

فهو الغريب القادم من شتات الأرض، لا يعرف ما تعنيه أصالتها، الأرض التي حملت أبناءها في رحمها جيلا تلو جيل، أكلو من خيرها، وتشبّعوا من رائحتها، حتى لو دخلت حبّة فاكهة من غير تربتها لعرف أهلها بأنّها غريبة، لا تحمل طعم أرضهم، نعم، لثمار أشجارها طعم خاصٌّ بها، كنت أضحك على قول أمي عندما تقول: “زي ثمر فلسطين ما في! “.

نعم يا أمي، زرتها مرّات قليلة، ليس ثمرها فحسب، بل رائحة الهواء كما قلت مختلفة، ونسمة الشجر تهمس في أذنك متساءلةً أين أنت عني؟ ألستم من طينة هذه الأرض! ورغم أنهّا شمس واحدة، إلّا أنّها إذا لامست فضاء فلسطين صار لها تأثير خاصّ على أهلها، تتسلّل بهدوء إلى دمائك تجعلها تتبختر في شرايينك بعزّة وكرامة، فإذا مشيت على تربها خلعت حذاءك وتلذّذت بتداخل ذرّات التّراب بين أصابع قدميك لتشعر بأنّ جذورها تمتدّ من قدمك إلى باطنها حقا بعاطفة خاصّة تربطك فيها.

جاهل من لا يعرف أنّ الأم تعرف أبناءها، حتّى وإن صاروا بعيدا في أصقاع الأرض المترامية، فحنينها وحبّها يشدّهم إليها، كم من روح توّاقة أن تطأ ثراها وتقبّله، كم من قلوب تعشق تلك الأرض رغم بعدها، ولا ترى لها من بُدٍّ أن تعود، كم من أبنائك أمّاهُ تلهج لياليهم بالدّعاء ليكون لهم حظّاً في عودتهم إليك، وكم من أبنائك في سجون القهر يحملون ويتحمّلون مرارة الظلم لأجلك، هل فكّروا وتردّدوا قبل أن يوضع القيد في أيديهم، لا أعتقد ذلك، فنداء الأرض عندما ينبعث في أجسادنا نمضي بلا تفكير، تدفعنا دفعا كموج البحر المتلاطم بأمواجه موجة تلو الأخرى، أنّى لنا أن نتحكّم به.

فكيف بها وهي تصرخ بنا، وصراخها يملأ البحار والقفار، فتتسارع القلوب بنبضاتها، لتذكّرنا بأنّ الأرض لأهلها، وقد طالتها خطى الغرباء وصارت ثقيلة عليها، ما عادت تطيقهم، الأرض تتململُ أحبّتي فإذا تحرّكت صارت زلزالا يهزّ أهلها ومغتصبيها سواء، فتارةً تهزّ أبناءها تخبرهم أن انطلقوا لمجدكم أنّى لي أن أخرج الزرع حرّاً وأنتم في أسْرِ الغريب؟! وتارةً تهزّ مغتصبيها مهدّدة أن لن يطول بقاؤكم هنا، فهذه تربة أبنائي وأنتم غرباء، لا مقام لكم فارجعوا من حيث جئتم.

أنا الأرض بعنفواني وجبالي الشامخة وبحري الهادر، أهمس حيناً مطيّبةً خواطر أبنائي، وأصرخ أحياناً لأوقظ من دخل في غفوة الحزن والألم، لأخبره بأنّي لا زلت هنا، قم يا بني لا تحزن، قم وارم عنك رداء الغريب جانبا فهو لا يليق بك، تليق بك العزّة والكرامة والصّمود، يليق بك الصّبر والعناد، تليق بك حجارتي التي تمسكها بيدك فتضرب بها جبهة الغريب، قم، فلست هنا لأدفن الموتى في رحمي، بل لأنفخ فيكم صرخة الحياة بقسوة الجبال ورقّة الورد، بملوحة بحري وعذوبة أنهاري وينابيعي، بصحرائي الجافّة ومروجي الخضراء الممتدّة بالرّبيع الزّاهي، إنهّا الحياة تناديكم بكرامة، وإلا فباطن الأرض خيرٌ لكم ما ظاهره.

لغة الأرض واضحة لا لبس فيها ولا غبار، يد السّارق تُقطع، وقدم الغريب المعتدي تُبتر، ومن لا حيلة له فليسقي الحرث ويرعى الزرع وليأكل من ثماره ويُطعم أهله، لعل أبناءه يدركوا بأفهامهم ما عجز عن فهمه، والبلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربه، فالجذور الأصيلة تضرب في أعماق الأرض فتشتدّ وتشدّ الأرض تحت أقدام أبنائها الثابتين المخلصين، باقون ما بقي الزعتر والزيتون.

Exit mobile version