طوفان الكلمةمقالات

إعلام الاحتلال من “وادي الماهوك” إلى الطوفان: تاريخ مدجج بالكذب

الكاتبة: تسنيم محمد

عام 1937، وقع إضراب لعمال الحديد في غرب بنسلفانيا بالولايات المتحدة، وكان من الضخامة بحيث هدد مصالح رجال الأعمال الاستغلاليين. ومع تنامي الحركة العمالية، ابتكر هؤلاء -ومن بينهم مؤسسو فكرة التلفزيون الأوائل- وسيلة لشيطنة المضربين، عبر تصويرهم كمخربين يسعون لتدمير البلاد، ونزع الشرعية عن تحركاتهم من خلال إظهارهم في صورة المعادين للمصلحة العامة. استخدموا لهذا الغرض أدواتهم الإعلامية التي كانوا يهيمنون عليها، فنسجوا خطة مدروسة نجحت في تثبيت صورة “المضربين الأشرار الذين يهددون هويتنا”، بالتوازي مع تشويه سمعة النقابات وتخويف الناس من “عنفها”.

صيغت تلك الخطة لاحقًا في ميثاق عملي أصبح مرجعًا في مواجهة أي إضراب، عُرف باسم “صيغة وادي الماهوك”. ونصَّ على:
“عند التهديد بالإضراب، قم بوصم قادته بالمحرضين لتشويه سمعتهم، وصوّرهم كأقلية ضئيلة منشقة، وفعّل التهديد والضغط، وارفَع راية القانون والنظام عاليًا لتحريض المجتمع على حمل السلاح ضد العنف المتخيل، وطمس حقيقة أن العمال يتمتعون بحقوق متساوية.”

اللافت في هذه الحادثة أنها لم تكن أول محاولة للتشويه وقلب الحقائق، لكنها الأولى التي تُوثَّق كميثاق مكتوب بين المتحكمين بمصير الناس؛ دستور صريح للكذب، بدأ في أمريكا، وتفرّع حتى بات سياسة دولية ممنهجة!

ولأن جذور هذا “الدستور” نشأت في الولايات المتحدة، فليس مستغربًا أن تتبناه دولة الاحتلال، التي لم تكتفِ بتطبيق أساليب أستاذتها في الطغيان، بل تجاوزتها، حين اختارت أن تكون لاعبة أساسية في مجتمع التضليل العالمي، لا مجرد تابعة له.

في حروب غزة، تكشفت ملامح هذه الصناعة الممنهجة، وبلغت ذروتها خلال “الطوفان”، حين مارست دولة الاحتلال أبشع صور التضليل الإعلامي والكذب والفبركة. فبما تملكه من سيطرة على الإعلام، والمال، وأدوات العصر الرقمي، استطاعت أن تحقق حضورًا واسعًا، وتلعب بعقول الناس تحت غطاء تقني ناعم وخطاب خادع.

اليوم، لم تعد جماعات المال الصهيوني تهيمن على التلفزيون وحده، بل باتت كالأخطبوط: تمتد أذرعها إلى وكالات الأنباء، وصناعة الصورة، ومصادر الإنترنت، والسينما، وشركات مواقع التواصل الاجتماعي، بل تشتري أصوات المشاهير وتوجهات المؤثرين، وتُسخّر الذكاء الاصطناعي لتوليد صورة مشوّهة متكاملة الأركان تخدم روايتها الكاذبة.

لقد مارست دولة الاحتلال نمطًا متصاعدًا من الخداع الإعلامي المنظم، مدعومًا بتغلغل عميق داخل قنوات التأثير السياسي والاقتصادي العالمي. سياسة تشويه تضرب جذورها في التاريخ، منذ زمن فرعون الذي سخّر ذراعه الإعلامي “هامان” لشيطنة بني إسرائيل ونبيهم موسى، لكن بأساليب أكثر فجورًا ووقاحة اليوم.

وربما كانت إحدى أذكى الحيل الصهيونية هي اختراع “بعبع” لا أحد يفهم معناه تمامًا، لكنه يخافه الجميع: “معاداة السامية”. هذا ما عبّر عنه المفكر اليهودي الأمريكي ناعوم تشومسكي حين قال:
“أنت تريد إنشاء شعار لا يمكن لأحد الوقوف ضده، لأن لا أحد يعرف تمامًا ما يعنيه. تكمن قيمته الحقيقية في كونه يُشتّت الانتباه عن سؤال جوهري لا يُسمح لأحد بطرحه.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى