الصمود تحت القصف: أجداد صمدوا فرحلوا مع البيت

إيمان سلمي – غزة

في غزة، لا تُقاس الحياة بعدد الأنفاس، بل بعدد المرات التي ننجو فيها من الموت.
حين تتساقط القنابل على الأحياء، وتتحول البيوت إلى تراب، يبقى الإنسان واقفًا كالجبل، يحمل قلبه على كفّه، ويرفع رأسه رغم الدموع والغصّات.

في هذا الركن الصغير من الأرض، حيث اجتمع الحصار بالقصف، والمجاعة بالفقد، تنبت شجرة الصمود من تحت الركام.
ترى المرأة تصنع الخبز من القليل، وتُطعم أبناءها بينما تُخفي جوعها بابتسامة لا تخدع سوى الألم.
ترى الطفل يركض بين الخيام حافي القدمين، لكن عينيه تشعّان بالحياة، كأنهما تُكذّبان الجوع والخوف.

الصمود في غزة ليس شعارًا يُرفع في المظاهرات، بل هو فعلٌ يومي، نبضٌ مستمر.
يقاس الصمود هنا برجفة أمٍّ تُطعم طفلها كسرة خبز رغم جوعها، وبعجوزٍ يتمسك بجدران بيته المتصدعة كأنها آخر ما تبقى من عمره.
في حي الزيتون الشرقي، رفض جدّي النزوح، رغم القصف العنيف والمجاعة والنداءات المتكررة للرحيل نحو الجنوب.
لم يستطع أن يتخلى عن بيته الذي بنى فيه كل ذكرياته.
كان يكرر بحرقة: “كيف أترك بيتي بعد كل هذا العمر؟”
كأن خروجه منه يعني التخلي عن تاريخه وعن نفسه.
صبر هو وجدّتي والعائلة كاملة على الجوع، وقصف الليل والنهار، محتسبين أن الثبات في المكان مقاومة.
لكن لم تدم تلك الروح الشامخة طويلًا؛ ففي أحد الأيام العنيفة، غدرتهم طائرات الاحتلال، فهدمت البيت فوق رؤوسهم جميعًا، ورحلوا جماعات صامدين كما عاشوا.
لم يُعرف من سبق الآخر في الرحيل، لكن المؤكد أنهم بقوا معًا للنهاية، كما تمنّوا دومًا.

الصمود في غزة ليس بطوليًا كما تتصوره نشرات الأخبار.
الصمود مُتعب، بطيء، مرير.
هو أن تمضي يومك في جمع الحطب، ثم تقف ساعات في طابور من أجل كيس طحين.
هو أن تبتسم لطفلك وأنت تعلم أنك قد لا تجد له طعامًا غدًا.
هو أن تودّع ابنك شهيدًا ثم تنهض لتبحث عن مأوى لبقية أطفالك.
تقول “هناء”، التي فقدت منزلها في قصف على حيّ الصبرة وتعيش اليوم في خيمة بجوار بيتها:
“حين يُقصف الحي بأكمله، لا يبقى للمرء سوى أن يتمسك بمن تبقى. صرنا نعدّ بعضنا لا بالأسماء، بل بمن تبقى من العائلات. بيت فلان لم يبقَ منه أحد، عائلة فلانة بقيت الطفلة فقط. هكذا نحيا اليوم، بين الحفر والأسماء.”

غزة لم تُخضعها سنوات الحصار، ولن تُركعها شهور الإبادة.
فمن بين أنقاض كل بيت، تنهض امرأة، ينهض أب، ينهض طفل، كأنهم يقولون للعالم: نحن هنا، باقون، ثابتون.
نعيش لنحكي، نحكي لنشهد، ونشهد كي لا يُطمس وجعنا.

وما من مأساة تُخمد الروح الغزية.
في عزّ القصف، ترى الأعراس تُقام بصوت منخفض، كأنها تمتمة للحياة.
ترى الشباب يكتبون على الجدران كلمات تشبه الحلم، وتسمع الأغاني القديمة تُذاع في زوايا الخراب، كأنها تذكير بأن هذا الشعب لم ينسَ كيف يحب، ولم يتخلَّ عن الفرح.

هذا هو الصمود الغزّي.
ليس معجزة، بل طبيعة من طين هذه الأرض.
ليس بطولة نادرة، بل سلوك جماعي تزرعه الأمهات في صدور الأبناء.
فالصمود ليس خيارًا لأبناء غزة، بل هو هوية.
هو الحياة في حضن الموت، هو أن تحلم رغم أنك تعلم أن الغد قد لا يأتي.
الحياة في غزة إعلان يومي بأن الحق لا يموت، وأن من يقف في وجه الباطل، حتى بأمعاء خاوية، قد انتصر.

Exit mobile version