طوفان الكلمةمقالات

المقاومة: فطرة بشرية وسُنّة أبدية

الكاتبة: تسنيم محمد

«نحن لا نستسلم… ننتصر أو نموت، وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم، والأجيال التي تليه. أما أنا، فإن عمري سيكون أطول من عمر جلّادي».

تلك كانت كلمات قائد الثوار الليبيين عمر المختار، وهو معلق على حبل المشنقة الذي نصبه له محتل بلاده الإيطالي. وبعد أن لفظ الشيخ السبعيني أنفاسه الأخيرة، ظن جلاده أن ثورته قد انتهت، وأن الجموع التي حشدها لتشهد هزيمتها ستخنع وتتراجع. لكنه لم يعلم أن تلك الروح التي أُزهقت من جسد الشيخ، سكنت كلماته الأخيرة، فأحيتها، وجعلتها نبوءة لا تخطئ، ولعنة لا تستكين. لقد استعرت الثورة ولم تخمد إلا بعد اثني عشر عاماً، حين تحررت ليبيا وطُرد المحتل الإيطالي بعد نصف قرن من الاحتلال.

تلك هي سُنّة الأمم منذ نشأتها: لا قرار لمحتل في أرض مغصوبة، ولا استكانة لشعب يقاوم مغتصبه. ومهما اختلفت الأزمان والأشكال والألوان والأسماء، تظل هذه السنّة حقيقة مثبتة، من أقاصي الأرض إلى أدناها، في مشرقها ومغربها، من كل عرق وأصل وديانة: من الجزائر، وليبيا، ومصر، وسوريا، إلى ڤيتنام، والهند، والبلقان، وكوبا… إنها نزعة إنسانية جُبِل عليها البشر، أن يقاوموا المعتدي، فلا يتوهم أحد أن هذه السنّة تتغير، أو أن تلك الجِبِلّة التي فُطر الناس – بل وبعض الحيوانات – عليها تخبو، مهما طال الزمن، وتطاول العهد، واطمأن المحتل. فالتاريخ ملئ بشواهد المقاومة التي لم تصل في حال من الأحوال إلى نتيجة غير التحرر.

ومنذ أن بدأت أنظار الأطماع الاستعمارية تتجه نحو هذه الأرض، بدأت هي في تفعيل بروتوكول المجابهة، كأي أرض حرّة لا تُشترى ولا تُنكسر، منفلتة من قوانين العالم الجديد، الذي لا يرى بلاد الآخرين إلا من منظور قوته: مشاريع استثمارية وبقاع منهوبة.

الأرض الحرّة لا تساوم، لا تبيع، ولا تستسلم، مهما اختلف لون جلد اللص، أو هويته، أو تغير شكله ولسانه. فمنذ لحظة أن نظر إليها نظرة مطمع، أعلنت عليه العداء.

وعلى أرض غزة، لا يخفى تاريخ الأطماع والطامعين، ولا يُنتظر منها أن تهادن أحداً، أو أن ترفع يدها الجريحة بالسلام في وجه من أدماها.

ومنذ أن سام الاحتلال أهل هذه الأرض ظلماً وبطشاً، ظل يراكم العداء والحقد ضده، لينفجر في وجهه أحياناً بشكل مستمر ومتواصل، وأحياناً أخرى بعد زمن طال أو قصر. وعليه، لا يمكن أن نرى أي فعل مقاوم على هذه البقعة دون ارتباطه بأصل القصة، ومبدأ السبب الذي وجّه كل إمكانات صاحب الأرض والحق في وجه اللص المعتدي.

وطوفان الأقصى، كغيره من العمليات والمعارك والمجابهات السابقة، جاء كحلقة في نهج واضح أعلنه الفلسطينيون، لا ينتهي قبل تحرير الأرض والإنسان.

معركة انطلقت في ظل حصار ظالم، وسجون ممتلئة، وبلاد مقطعة الأوصال، وحقوق ضائعة، لتخاطب العدو بلغة القوة التي يفهمها ولا يرضخ إلا لها، فتقول له: لا استكانة قبل الحرية.

ومنذ عهدها الأول بالملثم حامل الحجارة، حملت غزة همّ الوعد الصادق وضريبة التحرير، منذ الخطاب الأول لشاب مخبأ الملامح خلف كوفيته، معلناً اختطاف الجندي الأول لأجل التحرير.

حفظت غزة الخطى والطريق، وظل ذلك الشاب مخبأً عن العيون، حاضراً في كل خطوة، ليغدو رمزاً لظل مجهول صار أكثر المعلوم يقيناً وصدقاً، واختتم دربه بأكبر عملية أسر، لأعظم عملية تحرير.

المقاومة بذرة يغرسها الثائر الأول ويمضي، وتبدأ هي بالنمو والتمدد، ترعاها أجيال مضت على درب ذلك الثائر الذي علّم كيف تسير سُنن الكون في الأرض، فعمل دون أن يثبّطه طول الأمد، أو يمنعه بعد النتيجة. لقد قضى كل ثوار الأرض – إلا قليلاً – قبل أن يروا بأم أعينهم نجاح الثورة، ورحلوا قبل أن يشهدوا فجر الحرية. لقد أودعوها ذلك القانون الأزلي الذي لا يتبدل: تبقى المقاومة، طالما بقي الاحتلال، وتُورَّث للرجال كما يُورَّث الاسم والصفة.

في غزة، سواعد الرجال الذين يسكنون باطن الأرض، فيها بأس صخورها، وفيها لين براعمها. فيها لحود الموت، ومنها انبثاق الحياة. سواعد رجالنا كأرضهم: نور ونار. وعلى مدار سنين، دأبوا بصبر، وإعداد، ومثابرة، وكتمان، حتى حان القطاف وقت النضج، فلا حسرة ولا خيبة، والتحرير وعدٌ صادق لا شعار، والحق انتزاعٌ مرّ لا استجداء.

الراية هنا تعلو، تتلقفها الأيدي جيلاً بعد جيل، حتى لو خرج هذا الجيل من ركام الإبادة، ومن أنقاض القمع، ولو عاش تحت سطوة الحصار، وفي ظل الفقد والحرمان. لقد نجحت “إسرائيل” – كما قال عزمي بشارة – في صناعة الجيل الذي سوف ينهي وجودها.

هنا، أرض ترسم دربها كل مرة من جديد، بالدم، بالإعجاز، بالثبات، بقوة صاحب الحق الذي يجابه طغاة العالم مجتمعين، وهو منزرع بأرضه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى