عام

بين الإعلام والحقيقة: كيف تُوجه إسرائيل سردياتها لإخفاء خسائرها العسكرية في غزة ولبنان؟

د. عمار علي حسن

لم يسبق لإسرائيل أن مارست التعتيم الإعلامي بهذا القدر الكبير كما فعلت بعد اندلاع “طوفان الأقصى”، مما أضاف ضربة جديدة إلى سجلها الديمقراطي المتهالك الذي طالما حاولت التباهي به. كانت تستخدم هذا السجل لتعزيز صورتها وتسويق نفسها في العالم الغربي، لتعويض ممارسات التمييز التي ترتكبها ضد العرب الحاملين لجنسيتها، وبعض اليهود من أصل إفريقي، بالإضافة إلى نظام الفصل العنصري الذي تفرضه على سكان الضفة الغربية وقطاع غزة الواقعين تحت احتلالها. عادةً ما ينحرف إعلامها عن الحقيقة، ليصوّر العرب بصورة زائفة ومضللة.

في هذه الحرب، سعت إسرائيل إلى إسكات كل الأصوات التي تكشف حقيقة الإبادة الجماعية التي تُمارس في غزة. وقد قتلت 175 صحفيًا فلسطينيًا، واعتقلت 32 آخرين، وأغلقت مكاتب عدد من وسائل الإعلام العربية، ومنعتها من العمل في غزة، مثل قناة “الميادين” اللبنانية وقناة “الجزيرة”. لم يتوقف التضييق عند الإعلام العربي فقط، بل أغلقت إسرائيل مكتب “الجزيرة” في رام الله، وفرضت قيودًا على المراسلين الميدانيين الذين تركتهم يعملون، بما في ذلك الإسرائيليين الذين يعملون في القنوات الفضائية أو يكتبون مقالات وتحليلات في الصحف.

امتدت يد الرقابة العسكرية إلى المواطنين الإسرائيليين أنفسهم، الذين كانوا يستخدمون هواتفهم الذكية لتوثيق الخسائر الإسرائيلية عبر الإنترنت، مرفقة أحيانًا بتعليقات أو أصوات تعبيرية عن الخسائر التي تسببت بها صواريخ المقاومة الفلسطينية وحزب الله.

التحول في سياسة الإعلام الإسرائيلي:

قبل سنوات، كان الإعلام الإسرائيلي مصدرًا للأخبار حتى للعرب، حيث كشف التفاهمات والاتفاقيات السرية مع بعض الأنظمة العربية. هذا كان ممكنًا بفضل وجود معارضة إسرائيلية قوية، وتعدد الاتجاهات السياسية، مما وفر مساحة لحرية الرأي والتعبير. ولكن مع وصول بنيامين نتنياهو وحلفائه من اليمين المتطرف إلى السلطة، أصبحت الحكومة أكثر شمولية واستبدادية، فبدأت تخنق الإعلام، وتوجهه نحو التعبئة والتحشيد ضد ما أسمته “الخطر الوجودي” الذي يهدد “دولة إسرائيل”.

الرقابة المشددة في الحرب الحالية:

التعامل الإعلامي الإسرائيلي مع حرب “طوفان الأقصى” مختلف تمامًا عن حربي 2021 و2006. آنذاك، كان الإعلام الإسرائيلي مصدرًا مهمًا للمعلومات التي ترسم ملامح الموقف وتفضح إخفاقات الحكومة والجيش. أما في هذه الحرب، فقد شددت الحكومة قبضتها على الإعلام لتحقيق عدة أهداف:

  1. إخفاء الخسائر العسكرية: لإسرائيل مصلحة في إخفاء خسائر جيشها في غزة ولبنان لتقليل الانتقادات الداخلية تجاه الجيش والحكومة.
  2. الحفاظ على صورة “الجيش الذي لا يُقهر”: يحرص الإعلام الإسرائيلي على إظهار الجيش كقوة لا تقهر، بهدف الحفاظ على الثقة الدولية والإقليمية في قوته.
  3. تقليل الهلع داخل الجبهة الداخلية: يهدف التعتيم الإعلامي إلى تقليل حالة الذعر بين الإسرائيليين، خصوصًا مع نزوح المستوطنين من المناطق المستهدفة بالصواريخ.
  4. إخفاء الجرائم ضد المدنيين: تحاول إسرائيل تقليل انتقادات المجتمع الدولي عبر التعتيم على الجرائم التي ترتكبها في غزة ولبنان.
  5. حرمان المقاومة من المعلومات: يمنع التعتيم المقاومة من الحصول على معلومات حول ضعف الجيش الإسرائيلي، مما قد يعزز معنوياتها.

إسرائيل والحرب الإعلامية:

كما هو الحال في جميع الحروب، لا تترك الدول إعلامها يعمل بحرية تامة لضمان سرية العمليات العسكرية. لكن هذه المرة، فرضت إسرائيل رقابة إعلامية صارمة لعدة أسباب، أبرزها طول أمد الحرب، وقدرة المقاومة على نقل المعركة إلى داخل إسرائيل.

في النهاية، قد يُكشف المستور بعد انتهاء الحرب، ويبدأ العالم في معرفة ما تم إخفاؤه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى