طوفان الكلمةمقالات

بيوتُنا الراحلة: حكاياتٌ محفورةٌ في ذاكرتِنا

أحلام عبد الله – غزة

بينما تتجوّل بين الأنقاض المتناثرة في مدينة غزة، يخيل إليك أنك تستمع إلى همساتٍ خافتة، أصواتٍ تنبعث من تحت الركام. ليست مجرد أصوات حطام، بل هي أصواتُ بشر، قصصٌ لم تكتمل، وآمالٌ دُفنت تحت طبقاتٍ من الغبار والإسمنت.

هنا، حيث كانت الحياة تعجّ يوماً ما، تتحدث الجدران المنهارة عن الفقد، عن الصمود، عن رسائلَ يحاول أصحابُها إيصالَها إلى العالم من بين هذا الخراب.

ففي كل زاوية من قطاع غزة، تتناثر حكاياتٌ لم تُروَ بعد، قصصٌ صامتة ترويها أكوام الركام، الشاهدة على زمنٍ مضى. ليست هذه مجرد حجارة متراكمة، بل بقايا ذكريات، وأطلال بيوتٍ كانت ذات يومٍ نابضة بالحياة.

بيوتٌ احتضنت بين جدرانها دفءَ العائلة، وضحكاتِ الأطفال، وأحلامَ الشباب. لكلِّ حجرٍ حكاية، ولكل زاويةٍ ذكرى، محفورةٌ عميقاً في قلوبِ سكانِ غزة الذين فقدوا بيوتهم في أتون حربِ الإبادة الجماعية.

أتذكّر جيداً بيتَنا القديم؛ كانت جدرانُه تحمل آثارَ سنواتٍ من الفرح والحزن، رسوماتِ طفولتي الباهتة على أحد الجدران، وعلاماتِ قياسِ طولي المتزايد بجانب الباب. كانت رائحة خبز أمي الطازج تتسلل إلى كل ركن، وصوتُ جدّتي الهادئ وهي تروي لنا حكايات خروجها من يافا عامَ النكبة. لا تزال تلك الحكايا يتردد صداها في أذني حتى اليوم. لم يكن مجردَ مكانٍ للسكن، بل كان وطناً صغيراً، وعالماً خاصاً بنا.

واليوم، عندما أمرّ بجانب المكان الذي كان يقف فيه بيتُنا شامخاً، لا أرى سوى كومةٍ من الغبار والحجارة المكسورة. لكن في مخيلتي، تعود الجدران لترتفع من جديد، وأرى نافذتي المطلة على المسجد المجاور، وأتخيل صوت أمي تناديني لتناول العشاء. إنها ذكرياتٌ عصيّة على النسيان، محفورةٌ في الذاكرة كوشمٍ أبدي.

ليست قصتي وحدي. فكلُّ بيتٍ مدمّر في غزة يحمل في طيّاته آلافَ القصصِ المشابهة: قصصٌ عن ليالٍ دافئة اجتمعت فيها العائلة حول مائدة الطعام، عن أفراحِ الأعراس التي ملأت المكان بهجةً، وعن أحلامٍ صغيرة وكبيرة وُلدت وترعرعت بين تلك الجدران. كل بيتٍ كان يمثل جزءاً من هوية صاحبه، امتداداً لروحه وتاريخه.

لكن، رغم الألم العميق، يظلّ سكانُ غزة متمسكين بذكرياتِ بيوتهم المدمّرة ككنزٍ لا يُقدَّر بثمن. إنها الوقودُ الذي يدفعهم نحو الأمل بغدٍ أفضل، إنها الشهادةُ الحيّة على أن الروح أقوى من الحديد والخرسانة، وأن الذكرياتِ تبقى خالدةً حتى وإن فنيت الأماكن.

ستبقى حكاياتُ بيوتنا الراحلة تُروى للأجيال القادمة، لتُذكّرهم بتضحياتِنا وصمودِنا، وتحملَ معها عبقَ الماضي ودفءَ الحنين. ستظلّ تلك الأطلال شاهداً صامتاً على حقّنا في الحياة الكريمة، والأمن، والسلام، وحافزاً دائماً لنا للعمل من أجل مستقبلٍ لا يشهد فيه أطفالُنا دماراً آخر لبيوتهم وذكرياتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى