تأجيل الانتخابات الفلسطينية والارتهان لإرادة العدو
محسن محمد صالح
كارثتان في العمل الوطني الفلسطيني، أولاهما وجود قيادة سياسية متنفذة ترتهن قرارها ومسار ترتيب البيت الفلسطيني بإرادة أعدائها وخصومها، وتحديداً الاحتلال الإسرائيلي، وثانيتهما وجود معارضة فلسطينية ترتهن حركتها ومسارها السياسي بهذه القيادة العاجزة.
القرار الذي اتخذه عباس مساء 29 نيسان/ أبريل 2021 في اجتماع ما سُمي زوراً القيادة الفلسطينية، أقل ما يقال فيه أنه احتقار للإنسان الفلسطيني، واحتقار للقوى الفلسطينية وفصائلها، واحتقار للتوافقات الوطنية ولمسار المصالحة، الذي أعطى بعض الأمل للخروج ولو جزئياً من حالة “التيه” الفلسطيني.
لقد حذرنا سابقاً (كما حذر غيرنا) من احتمال استخدام عباس وفتح موضوع منع الانتخابات في القدس كـ”قميص عثمان”، وكحق يراد به باطل، وكتبرير للهروب من الاستحقاقات الوطنية.. كما طالبنا سابقاً بضمانات لسير عملية إصلاح البيت الفلسطيني، وعدم ارتهانها بعباس أو فتح أو القيادة الفلسطينية الحالية.. وللأسف فإن “مخاوفنا” كانت في مكانها.
قيادة فلسطينية تقود مشروعاً في مواجهة كيان صهيوني غاصب، وفي مواجهة حركة صهيونية عالمية مدعومة بقوى كبرى، وتتعامل مع منظومات دولية محكومة بمزاج خصومها.. اكتشفت أنها في مهمتها العظيمة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، بحاجة إلى “إذن” من عدوها!! وعادت “إلى قواعدها سالمة” لتجتر عجزها وقلة حيلتها.. ولتستكمل مسيرة “الاستهبال” الفلسطيني!! بانتظار موافقة نتنياهو “الله يطول بعمره” بحسب عباس!!
كان مسار المصالحة الفلسطينية الذي بدأ قطاره الصيف الماضي (2020)، بالرغم مما كانت تَحفُّه من مصاعب وتخوفات، فرصةً للخروج من المأزق الفلسطيني، خصوصاً مع وجود مؤشرات، بدت جدية لدى الكثيرين في وقتها، بأن قيادة فتح ماضية في ترتيب البيت الفلسطيني. ولأن قيادة فتح تمسك بزمام منظمة التحرير وبقيادة السلطة الفلسطينية، وتتمتع بالاعتراف العربي والدولي؛ فإن موافقتها وتبنيها للأمر بدا أسلم خريطة طريق، وأقل تكلفة وأقل أضراراً في سبيل الوصول للهدف، ولو بسير بطيء. وكانت مزيته الأساسية هي في توفر الإرادة لدى فتح.
وبتضافر “الإرادات” الفلسطينية كان يفترض أن ننجح في فرض إرادتنا على العدو وعلى العالم، أما وقد تراجعت قيادة فتح، وأصرت على متابعة دورها المهيمن المستفرد؛ فقد أعادت الجميع إلى المربع الأول.. وأصبحت قضيتنا هي في انتزاع إرادتنا الفلسطينية من هكذا قيادة، كخط استراتيجي أساسي في مسار استنهاض عناصر قوتنا، وتحرير أرضنا.
نحن ندرك أن مجموعة من العوامل لعبت دورها في قرار عباس تأجيل الانتخابات، أبرزها حالة التَّشظي التي تعيشها حركة فتح، ونزول ثلاث قوائم رئيسية باسمها، وخشية عباس من خسارة قائمته وارتفاع حظوظ حركة حماس بالفوز في الانتخابات بالأغلبية النسبية، والرفض الإسرائيلي للانتخابات، وضغوط عدد من البلدان العربية باتجاه وقف الانتخابات لخشيتها من فوز حماس. كما أن “الحماسة” الأوروبية الأمريكية للانتخابات كانت حماسة كاذبة، لأنها معها طالما أن عباس وجماعته سيجددون شرعيتهم، وهي ضدها طالما أن الشعب الفلسطيني سيختار قيادة وطنية فعالة؛ تُعبر عن إرادته وليس عن إرادة القوى الدولية ورغباتها.
ويبدو أن عباس فضَّل أن “يتجرع الكأس” ويؤجل الانتخابات، ويتعرض لحالة غضب شعبي فلسطيني عارم، وأن يضيف المزيد إلى تآكل مكانته ومكانة فصيله الفلسطيني السياسية والشعبية؛ فهذا بالنسبة له أفضل من تكرار فوز حماس وتجديد شرعيتها، وأضمن لبقائه على كرسي القيادة، وأرضى لحلفائه وداعميه ومنظومته.. ولا بأس من تحمُّل “فشة خُلق” فلسطينية لأسبوع أو أسبوعين؛ ثم يعود للإمساك بالزمام.
الأداء البطولي لأهلنا وشعبنا في القدس في الأيام الماضية، ومواجهات باب العمود وغيرها، أثبتت أن مشكلتنا ليست في أخذ “إذن” من الاحتلال بالتصويت في القدس، وأن الحق ينتزع انتزاعاً، وأن ترتيب البيت الفلسطيني هو في جزء منه حالة اشتباك ومواجهة مع العدو، وصراع إرادات. ولو أن القيادة الفلسطينية الحالية تملك الحد الأدنى من الإرادة لالتقطت الرسالة المقدسية.. ولكنها أصرت على نهجها في تعطيل كل فعل نضالي مقاوم، وكل حالة انطلاق وطني حقيقي، وظلَّت أداة إفشال وإحباط لأي مسارات حقيقية للخروج من المأزق.
كان بإمكان القيادة الفلسطينية أن تحول قضية الانتخابات في القدس إلى قضية وطنية، وتستدعي القوى والفصائل الفلسطينية، لمناقشة سبل فرضها على الاحتلال، وأن تُحوِّلها إلى حالة تصعيد وطني تلقى دعماً عربياً ودولياً، لأنه مرتبط بإنفاذ حقّ طبيعي. وكان بإمكان أهلنا الأبطال في القدس أن يخوضوا تجربة الانتخابات بالآليات المناسبة في المساجد والكنائس والتجمعات.. ولكن هذه القيادة فضلت أن تنسجم مع عجزها وخوارها.. وأن تخذل شعبها.
ليس قرار تأجيل الانتخابات مجرد قرار عادي، لأنه ضرب منظومتًي الثقة والمصداقية التي يُبنى على أساسهما أي إعادة ترتيب للبيت الفلسطيني، ولأنه ضيّع إلى أجل مسمى “فرصة تاريخية” في حسابات الكثير من الفلسطينيين، الذين أقبلوا بقوة وإخلاص وانفتاح للإسهام في هذه التجربة. لقد أعادت فتح عباس الوضع الفلسطيني إلى أزمته التاريخية المزمنة.. ويبدو أنها عاجلاً أم آجلاً ستدفع أثمان هذه الأزمة وهذا التعطيل.
لقد فشلت القيادة الفلسطينية الحالية في التفريق بين مصالح الحزب أو الفصيل (فتح عباس) وبين المصالح العليا للشعب الفلسطيني، وفي التفريق بين حسابات الفصيل وبين حسابات ومعطيات المشروع الوطني الفلسطيني.. كما فشلت في التفريق بين مؤسسات الفصيل وبين المؤسسات الوطنية للشعب الفلسطيني التي تُمثله وتصنع قراره. هذه الحالة من “التماهي” التي تعيشها فتح وقيادتها.. تجعل المشروع الوطني الفلسطيني واستحقاقاته الكبرى مرتهنة بحسابات فصيل فلسطيني.. يخشى من مجرد استحقاق انتخابي؛ وهو يعلم تماماً أنه لم يعد يمثل حالة الغالبية الفلسطينية.. لا شعبياً ولا نضالياً ولا سياسياً.
يتوافر أمام القوى الفلسطينية فرصة جديدة، لتجاوز مجرد حالة الغضب الشعبي وتحويلها إلى طاقة فعالة بناءة، باتجاه تشكيل جبهة وطنية موسعة تفرض الإرادة الشعبية الفلسطينية الحقيقية في الداخل والخارج، ولا ترتهن لمزاج عباس وفريقه
كان موقف حماس في رفع الغطاء عن عباس وقراره وفي مقاطعة اجتماع الخميس 29 نيسان/ أبريل 2021 موفقاً، وكان منحازاً للإرادة الشعبية الفلسطينية، ومنسجماً مع باقي الفصائل والقوائم الفلسطينية. كما كان موقفها في رفض قرار عباس بعد صدوره منسجماً مع ذاتها ومع المسيرة الجدية في ترتيب البيت الفلسطيني.
والآن يتوافر أمام القوى الفلسطينية فرصة جديدة، لتجاوز مجرد حالة الغضب الشعبي وتحويلها إلى طاقة فعالة بناءة، باتجاه تشكيل جبهة وطنية موسعة تفرض الإرادة الشعبية الفلسطينية الحقيقية في الداخل والخارج، ولا ترتهن لمزاج عباس وفريقه. كما أن هذه التجربة لا يجب أن تمر مرور الكرام.. من حيث (على الأقل) دراستها وإعداد كافة الشروط والآليات والبنى التحتية اللازمة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني؛ وعلى رأس ذلك استقلالية القرار الفلسطيني وعدم ارتهانه بالاحتلال، والبدء بمنظمة التحرير والمجلس الوطني، والتوافق على البرنامج السياسي في إدارة المرحلة في مواجهة الاحتلال، والتوافق على قيادة مرحلية تدير المرحلة الانتقالية، وعدم ارتهان مسار الإصلاح وترتيب البيت الفلسطيني بشخصٍ معيَّن أو فصيل مُعيَّن.