طوفان الكلمةمقالات

تكرار النكبة.. تكرارٌ للعودة

تسنيم محمد

كتب إلياس خوري في مقدمة كتابه النكبة المستمرة:
“كيف نقرأ كتاباً ونحن نعلم أنه لم يصل إلى نهايته بعد؟ فبينما يقرأ الدارسون والباحثون عن النكبة، وهم عازمون على كتابة القصة، يتحولون إلى جزء منها.”

وإن كانت كلمات خوري وصفاً لحالة عامة، فقد تُرجمت خلال الحرب ترجمة حرفية، جعلت منها أصدق تمثيل لواقع جيل كان يستمع إلى قصة النكبة ثم تحوّل إلى جزء منها.
ففي حرب طوفان الأقصى، تكررت وقائع النكبة ذاتها، بتفاصيل أكثر وحشية وواقع أشد مرارة.
المساحة التي التقت فيها خيام 1948 وخيام 2023 هي ذاتها، لكن المأساة تضاعفت، والمجرم ازداد طغياناً، والعالم أمعن في تواطئه مع الدولة المسخ، والعرب ازدادوا خنوعاً وتخذيلاً.
أما المخذولون، فوجدوا أنفسهم يفهمون –أخيراً– قهر أجدادهم، وغصّة أمهاتهم، ولسعة الحزن في عيون اللاجئين الأوائل، الذين ورّثوهم اللقب كما ورثوهم المفاتيح وقصص البلاد المنهوبة.
راحوا يتساءلون:
هل الماضي حاضر؟ كيف نضع حداً فاصلاً بين زمنين متداخلين؟ ولماذا يعود الماضي حينما نروي حكايات الحاضر؟ ولماذا نجد أنفسنا في الحاضر حين نتذكّر؟
كما قال خوري.

إن واقع النكبة لم ينتهِ حتى يُقال إنه عاد.
إنه باقٍ، وتكراره جزء من بقائه.
فالاحتلال يتمدد منذ اليوم الأول، يلتهم الأرض والضحايا، واللجوء يترسخ خارج الوطن وداخله.
لكن اللافت في تكرار هذه المأساة، هو تكرار حالة “العودة”، كصرخة في وجه محاولات التهجير، وكوسيلة مقاومة، ورفض لواقع النكبة الجديدة.

النكبة الأولى كان هدفها طرد السكان والاستيلاء على الأرض.
وبعد سنوات من لجوء المطرودين داخل رقعة ضئيلة من وطنهم، عاد الاحتلال ليعيد الكرّة – لأنه قادر، ولا أحد حوله يملك منعه – ليؤكد لهم ألا حق لهم في الأرض، ولا سبيل لعيشهم عليها، ويعاقبهم على جرأتهم في الحلم والدفاع عنها!

كانت النتيجة في النكبة الأولى: سلب الأرض، وتشريد أهلها، وهزيمة العرب في مشهد عبثي، وولادة فعل “اللجوء” وظاهرة “المخيم” كخط دفاعٍ عنيدٍ يحرس “العودة”، ويورّث النكبة كمحرّك للتحرير.
أما في هذه النكبة الجديدة، فلم يغادر اللاجئون حدود الأرض، بل تنقلوا بخيامهم بضعة أمتار بعد كل هجمة.
لقد رسخت لديهم القناعة المتوارثة: ألا خروج من “البلاد”، لأن الخروج نقيض العودة التي لا بد أن تتحقق.

لقد عاشت الأجيال التي كبرت على الحكايات التراثية هذه القصص واقعاً، وترجمتها حرفياً، فزاد وعيها بالعودة وتمسكها بها، كحقٍّ ينتقل معهم أينما انتقلوا.
وقد أرّق هذا المفهوم المحتل منذ النكبة الأولى، وبلغ ذروته في جيل المقاومة، الذي لم يحد عن الهدف الأول: تحرير البلاد الضائعة التي ورثوا روايات نكبتها.

فالغريب، القادم من بعيد، لا يفهم معنى أن “يشم والد صديقي المقيم في بيروت رائحة تفتح أزهار الليمون في يافا في موعدها، ثم يموت”، كما قال درويش.
ولا يفهم، كما روى أحد جنود الاحتلال، حين دخل أحد المخيمات، وقال:
“لقد مرّت عشرات السنين، وما زالوا يقولون: نحن من بئر السبع!”
نحن أبناء الذاكرة، والذاكرة تحمل الوطن وتحميه.

هذه الحرب، التي أعادت رسم مأساة النكبة بشكل أكثر فجاجة، كانت أيضاً خدمة غير مباشرة لإحياء الموروث الفلسطيني، وتعميق ارتباط الأجيال به.
ومع تصاعد صوت المقاومة – كل سواعدها من ذلك الجيل – لن تكون العودة إلا مفهوماً أكثر ثباتاً، وموروثاً حيّاً، ورواية امتدت عبر نكبتين ولجوئين.

وسط الدم النازف، والخذلان السياسي، يبقى بصيص أمل لا يجب أن يُنسى:
لقد استعادت الضحية حقّها في سرد روايتها. وهكذا تبدأ الأشياء.
وهكذا تعود فلسطين إلى العالم الذي طُردت منه.
لقد صار من الممكن رسم شجرة الموت العائلية التي تضم ثلاثة أجيال.
لقد اخترع الاحتلال للفلسطينيين شجرة مرسومة بالدم، حوّل فيها ذاكرة النكبة إلى حاضر.
وهذا ما يبشّر بنهايته – التي يرونها هم قبلنا.

حين نسمع كيف سخر الشاعر الإسرائيلي ناثان زاخ من شعار هرتسل قائلاً:
“ليست هذه خرافة: نصر إسرائيل لن يخيب، لأنه لن يدوم لكي يخيب!”
ندرك ذلك.

وحين لم يجد الصوت الفلسطيني سوى آذانٍ صمّاء في الوطن العربي، صنع حديثه بذراعه.
أما في الغرب، فقد كانت أوروبا تغسل يدها من الدم اليهودي بالدم الفلسطيني.
لكن المأساة المستمرة – كما قال إلياس خوري – ومقاومتها التي لم تتوقف، هما السبب الذي جعل من فلسطين فكرة تختزل الضمير.
وحينها، “يصير الدفاع عن الحق دفاعاً عن الحقيقة.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى