جذور الحكاية: قصتي مع السنوار – الحلقة الأولى
رئيس تحرير مؤسسة فيميد يكتب:
في قلب قطاع غزة، حيث تتشابك الأقدار وتتداخل الحكايات، نشأتُ في أحضان واقع يحمل عبق النضال وعمق التاريخ. كنت قريبًا من تفاعلات المساجد، التي لم تكن مجرد أماكن للصلاة، بل منابر للوعي وحلقات للدعوة، وأماكن لصنع الأبطال. في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ارتبطت أوثاقي بالمجمع الإسلامي الذي أسسه الشيخ أحمد ياسين، ذلك الرجل الذي كان بمثابة النور الذي يضيء طريق الجيل الجديد. رغم صغر سني، تركت تلك الأحداث بصماتها العميقة في نفسي، وأستذكرها اليوم بعد أكثر من خمسة وثلاثين عامًا.
كانت الانتفاضة الأولى، أو “انتفاضة الحجارة”، الشرارة التي أطلقت الأمل في نفوس الشعب الفلسطيني، وبدأ اسم يحيى السنوار يتردد بين همسات الشباب وأحاديثهم. كان ذلك الشاب القوي يُحكى عنه بصفة بطولية، وكان الناس يتداولون قصصًا عن شجاعته وحنكته. في طفولتي، وسط أجواء التوتر والأمل، حفرت ذاكرتي اسم السنوار، كحلم يرافقني في المرحلة الابتدائية.
تجذّرت في ذهني صورته كرمز للقوة والثورة، وكتجسيد لإرادة الشعب الفلسطيني في الحرية. كنت أسمع حديث المجالس عن جاذبيته في الجامعة الإسلامية، حيث كان يتمتع بفصاحة مدهشة وقدرة استثنائية على مناظرة خصومه، فكانت كلماته تتردد في آذاننا كأهازيج ثورية. كان يصرخ: “أن تعدوا أمواج البحر وقطرات المياه وحبات الرمال أهون عليكم من أن تهزموا الكتلة الإسلامية”. لم يُظهر قوة في حديثه فحسب، بل تجلى فيه التفكير الثوري العميق والطاقة المتجددة. كل من يتحدث عنه كان يُظهر إعجابًا شديدًا، وقد حُفر اسم السنوار في ذاكرتنا كقائد حقيقي يعكس طموحاتنا وآمالنا.
تحدث أحد أصدقائه، الذين عايشوا تلك الأيام قبل اعتقاله الأول، باحترام شديد عن يحيى، مشيرًا إلى أنه كان شخصًا لا يكل ولا يمل، يعمل بجد في كل ما يقوم به، يجمع بين العزيمة والإبداع، فقد قام ببناء غرفته بنفسه وثبّت أثاثه بيديه، مما يُظهر مدى تعلقه بأرضه وبيئته. لم تكن هذه الأعمال هي كل شيء، بل كان أيضًا محبًا للعلم والقراءة، يسعى لدمج النظرية بالتطبيق، مما يعكس طموحاته الشخصية وسعيه نحو التطور.
في ظل الأزمات المتتالية، استُهدفت قيادات حركة حماس عام 1989، وكان يحيى معتقلًا منذ عام 1988 احترازيًا. خلال التحقيقات، اتُّهم بأنه أحد مؤسسي الجناح الأمني للحركة، وقد أظهر براعته في ملاحقة العملاء وبناء جهاز استخباراتي معقد. كانت تلك صدمة للاحتلال الإسرائيلي، حيث أدركوا أن السنوار يمثل تهديدًا حقيقيًا لاستقرارهم. ورغم كل الضغوطات، بقي متمسكًا بمبادئه ولم يعترف بشيء مما وُجه إليه من تهم، لكنه حُكم عليه بمئات السنوات بالسجن، مما جعله رمزًا للصلابة والعزيمة.
أصبح اسم السنوار يجسد رمزًا للأمل والصمود في نفوس الغزيين، وكانت المسيرات تهتف له وهو في المعتقل أثناء فعاليات الانتفاضة الأولى. كانت الأهازيج والأناشيد الثورية تخلّد اسمه، فترتفع الأصوات بشعارات تؤكد عزم الشعب الفلسطيني على المقاومة وتخلّد صموده وعنفوانه. منذ تلك اللحظة، أصبح السنوار شخصية عميقة في عقولنا، كالرنتيسي والشيخ أحمد ياسين، قصة تُجسد الإرادة القوية في مواجهة الاحتلال، وحكاية شعب لا يعرف الاستسلام.