حين تستبدل الطفولة جدرانها الزهرية بخيمةٍ باردة: حكاية مريم وجيل الطوفان

إيمان سلمي – غزة
لم تكن مريم، طفلتي، قد تجاوزت عامها الثامن حين بدأت تُدرك أن الحياة في غزة ليست كحياة الأطفال في أماكن أخرى.
وُلدت في قلب الحصار، وكبرت على صوت الطائرات، كأنها جزء من أصوات الطبيعة. اختبرت معنى أن يكون الخوف جزءًا من تفاصيل اليوم العادي.
كانت مريم طفلة هادئة، خجولة، تُخبئ كلماتها خلف ابتسامةٍ مترددة، وتهرب إلى ظلّي.
لكن الحرب غيّرت شخصيتها تمامًا.
اليوم، مريم لم تعد كما كانت.
تقف بثبات، تُناقش الكبار والصغار، تتحدث في السياسة، تعرف أسماء قادة عدوّها جيدًا، تعرف الحق والأمل كأنها صبية ناضجة في جسدٍ صغير.
أقف مندهشة دائمًا أمام كلماتها، وأُدرك في كل مرة أن الحروب لا تمر على الأطفال عبورًا عابرًا، بل تترك فيهم ندوبًا لا تُرى بالعين، لكنها تُحفَر في القلب والذاكرة.
إنهم جيل الطوفان.
أطفال لم يُتح لهم الزمن أن يعيشوا براءة الطفولة، بل قذفتهم الأمواج العاتية إلى شواطئ النضج المبكر.
أقف وأتساءل: كيف كان يجب أن تكون طفولة مريم؟
في عالمٍ آخر، في واقعها الطبيعي، كانت مريم ستستيقظ كل صباح في غرفتها الزهرية، بين جدرانٍ ملوّنة تزيّنها صور أحلامها الصغيرة،
تلبس حقيبتها المدرسية وتنطلق بفرحٍ إلى صفّها، ترسم أحلامها بالألوان، تلعب في الحديقة، تركض، وتضحك دون خوف.
لكن الحقيقة اليوم مختلفة.
استيقظت في خيمةٍ باردة، استبدلت جدران بيتها المهدوم بأقمشةٍ مهترئة، وتدرس في زاويةٍ ضيقة، بلا كتبٍ كافية ولا سبّورة،
بلا مساحة للطفولة… ولا حتى للأحلام.
وحين أسأل مريم عن أحلامها، لا تتحدث عن دميتها أو ألوانها الكثيرة،
بل عن وطنٍ آمن، عن بيتٍ لا يُهدم، وعن صباحٍ لا تستيقظ فيه فزِعة.
صغيرتي لم تَعُد تخاف الظلام، ولم تَعُد تبكي عند رؤية الأخبار، بل أصبحت تسأل وتُناقش وتبحث عن الحقيقة.
كأنّ الحرب شدّت عودها، وقسّمت طفولتها إلى “ما قبل” و”ما بعد”، ورسمت على ملامحها الجادّة حكاية جيلٍ بأكمله.
جيل الطوفان ليس مجرد أطفال شهدوا الدمار، بل أرواحٌ صغيرة تحمل في داخلها ذاكرة المكان:
ذاكرة البيوت التي سُوّيت بالأرض، والخيمة الباردة، والضحكات التي ضاعت بين الأنقاض والأشلاء.
إنهم شهود العصر، يحملون الرواية الحقيقية في عيونهم، في كلماتهم، في أحلامهم… وحتى في صمتهم.
ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد حدثٍ عابر،
بل جزءٌ من ذاكرةٍ ممتدة، تتوارثها الأجيال كما يُورّث الجدُّ حفيدَه مفاتيح البيوت القديمة.
وكأنّ طفل الطوفان يقول بكل قوته:
“نحن لا نكتب التاريخ فقط، بل نعيشه، نحفره في القلوب قبل السطور، ونتركه لمن يأتي بعدنا ليُكمل الحكاية.”
فجيل الطوفان سيكبر… لكنه لن ينسى أبدًا.
فكيف يمكن للذاكرة أن تخون أصحابها؟