خذلانٌ مزدوج.. العداء للمقاومة أم خوف من الإسلام السياسي؟ قراءة في مواقف بعض الزعماء العرب
د. محسن صالح يكتب:
ما قد يثير الاستغراب ليس خذلان الأنظمة العربية لفلسطين والمقاومة فقط، وإنما مبادرتها لتقديم خبراتها و”مواعظها” للأمريكان والصهاينة في كيفية التعامل مع حماس وقوى المقاومة، وفي لعب دور المحرِّض عليها!
هل تنقص الصهاينة والأمريكان الخبرة الوحشية والدموية اللازمة في اغتصاب الحقوق وقمع إرادة الشعوب؟ ولماذا هذا الاستعراض بـ”الفهلوة والشطارة” مع أعتى “شياطين الإنس”؟ أم هي المصلحة المشتركة في محاربة “الإسلام السياسي” وتيارات المقاومة؟
يستعرض كتاب بوب وودوارد (Bob Woodward) الذي صدر مؤخرًا بعنوان “الحرب” عن دار سايمون أند شوستر في نيويورك، في أحد محاوره الحرب الإسرائيلية على غزة، ويكشف بعضًا من خفايا السياسة الأمريكية وحديث المسؤولين الأمريكيين مع عدد من الزعماء العرب، بما يوضح حقيقة مواقف هؤلاء الزعماء من قضية فلسطين، حماس، معركة طوفان الأقصى، والعدوان الإسرائيلي على القطاع.
بعض زعماء دول الاعتدال أكدوا وجوب القضاء على حماس وإعطاء الاحتلال فرصة لتدميرها (الصفحات 255-260). فيما قدم رئيس المخابرات في دولة عربية كبرى خبراته بشأن التوغل في غزة وقوة حماس وإمكاناتها وأنفاقها، فنصح المحتلين بعدم دخول القطاع مرة واحدة؛ قائلاً: “انتظروهم حتى يظهروا، ثم اقطعوا رؤوسهم” (صفحة 263). أحد زعماء الخليج قال إنه لا يريد فقط التطبيع مع “إسرائيل” بل يريده بشكل عاجل، لكن يريد أيضًا أن تختفي المشاكل التي خلقتها عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر أولًا (ص 297).
ومن بين ما تلقاه بلينكن من بعض الزعماء العرب كان التأكيد على أن حماس هي جزء من الإخوان المسلمين، وأن لهم دورًا في إثارة “عدم الاستقرار” في المنطقة.
لم يكن بوب وودوارد أول من يكشف بعض هذه الخفايا؛ فقد سبق لدينيس روس (Dennis Ross)، المسؤول الأمريكي الذي لعب دورًا بارزًا في مسار التسوية السلمية، أن تحدّث مع عدد من الزعماء العرب بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر. ذكر أن هؤلاء أبلغوه بضرورة تدمير حماس في غزة لمنع انتصارها، معتبرين أن هذا الانتصار قد يضفي شرعية على أيديولوجية “الإسلام السياسي” التي تتبناها. كما أشار القيادي في حماس موسى أبو مرزوق إلى أن بعض الأجانب أخبروه بأن أعضاء من السلطة الفلسطينية وبعض الدول العربية يطالبون الغرب سرًا بالقضاء على حماس.
ثمة أسئلة تدور في أذهان أبناء البلاد العربية وكل من يتابع القضية الفلسطينية:
- على أي أساس يعرّف الزعماء العرب أنفسهم من حيث الدين والهوية والانتماء القومي؟ وكيف يرون المسؤوليات المترتبة على ذلك، خصوصًا إذا كان الشعب الفلسطيني شريكهم في الدين والهوية والقومية والتراث والتاريخ المشترك؟ ألا يُعد دفاع الفلسطينيين عن أنفسهم حقًا طبيعيًا تكفله القوانين والشرائع الدولية؟ وإذا كانت نصرة العرب لفلسطين واجبًا، فلماذا يضعون أيديهم في أيدي الاحتلال ضد أهلهم وإخوانهم؟
- لماذا هذا العداء لحماس، رغم أنها لم تتدخل في شؤون الأنظمة الداخلية ولم تطلق رصاصة واحدة في تلك البلدان، وتركز عملها ضد العدو الصهيوني في فلسطين فقط، في حين تتحمل الاعتقالات والحصار الظالم وحملات التشويه الإعلامي دون رد بالمثل؟ هل يدرك القادة أن شعبية حماس وسط شعوبهم قد تفوق شعبيتهم؟
- إذا كانت مشكلتهم مع حماس، فما مشكلتهم مع الشعب الفلسطيني؟ ألم تحرك المجازر اليومية على مدى 390 يومًا مشاعرهم؟ أكثر من 43 ألف شهيد و102 ألف جريح والدمار الوحشي للمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس والبنى التحتية؛ كل ذلك لم يغير سياساتهم.
البلاد العربية، إن أرادت حقًا، تستطيع كسر الحصار ووقف المجازر؛ فهي تمتلك إمكانات هائلة. لكنها تستمر في حصار الفلسطينيين وتواصل علاقاتها مع العدو وتزويده باحتياجاته، وتمنع الحملات الشعبية لجمع التبرعات والتظاهر والاعتصام. حتى أن بعض الدول تعاقب على مجرد “تغريدة” أو إشارة “إعجاب”، وتكتفي بإرسال مساعدات لذر الرماد في العيون، بينما لا تبلغ قيمة تبرعاتها حتى قيمة قدم لاعب كرة أجنبي!
هذه الدول مشغولة بتهيئة البيئة العربية لهزيمة حماس والمقاومة والطعن والتحريض ضدها، في الوقت الذي تحمّل فيه وسائل الإعلام الخليجي المقاومة مسؤولية مجازر الاحتلال بدلًا من تحميلها للاحتلال نفسه.
- لماذا يرفض هؤلاء الزعماء التعبير عن إرادة شعوبهم وحقيقة مواقفها من قضية فلسطين؟ فوفق استطلاعات الرأي، نحو 90% من العرب ضد التطبيع ومع حق الشعب الفلسطيني في المقاومة المسلحة.
- العديد من الدول، مثل بوليفيا وكولومبيا وتشيلي والبرازيل وجنوب إفريقيا ونيكاراجوا، قطعت أو علقت علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي وسحبت سفراءها، بينما ما زالت دول عربية تحتفظ بعلاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع الاحتلال. وحتى الدول الغربية المؤيدة للاحتلال لا تمنع المظاهرات وحملات الدعم الشعبي للفلسطينيين، فلماذا تلاحق أنظمة عربية شعوبها على أبسط تعبير عن التضامن؟ ألا تدرك هذه الأنظمة أن الشعوب المقهورة تراكم الوعي، ولا تنسى هذا الخذلان، وأن هذا الواقع سيتغير عاجلًا أم آجلًا؟
- هل تدرك الأنظمة أن المقاومة في فلسطين هي خط الدفاع الأول عن البلدان العربية، وحائط الصد ضد العدو الصهيوني لحماية الأمة العربية والإسلامية؟ فقد صرّح نتنياهو مؤخرًا أنه سيعيد ترتيب النظام الأمني في المنطقة، ما يعني أن سطوته لن تتوقف عند حدود فلسطين، بل سيدخل هذه البلدان في “بيت الطاعة” وفق شروطه.
ورغم معرفتنا بوقوع هذه الأنظمة تحت الهيمنة الغربية، يبدو أن شروط الولاء والإذلال ستزداد إذا ما فرغ نتنياهو وحلفاؤه (لا سمح الله) من الملف الفلسطيني، مما سيخلق بيئة متفجرة في المنطقة ويزيد من عمق أزمات هذه الأنظمة مع شعوبها.
لقد آن للأنظمة العربية أن تدرك أن المراهنة على الاحتلال خسران، بعد أن أسقطت المقاومة النظرية الأمنية الإسرائيلية، وأثبتت إمكانية هزيمة المشروع الصهيوني وأصبحت إلهامًا للشعوب، وأكدت أن الشعب الفلسطيني لا يمكن تطويعه.