طوفان الكلمةمقالات

دولة واحدة… ولا حلّ في حضرة الإبادة

تسنيم محمد

كلما ورد مصطلح “حل الدولتين”، في سياق الأخذ والرد، والمدّ والجزر، في قضية فلسطين -المعضلة- انتابني شعور مرير بالسخرية والضحك البائس، فقد غدا هذا المصطلح -نفسه- نافياً لذاته، في حين يدرك جميع من يذكرونه أنه شعار فارغ، وفكرة خيالية، لا سبيل لإقرارها فعليًا، فضلًا عن تنفيذها.

نعلم في قرارة أنفسنا -ونحن نردد قرارات الأمم وخطابات الأئمة- أن هذا “الحل” ليس فيه من الحلّ إلا “حلّ” رأس هذا الشعب عن جسده المرتبط بأرضه.

فدولة الاحتلال قائمة على مبدأ واضح ووحيد: الإحلال.
وليس في أجندتها التعايش مع “الغُويم” على حدود يُحشر داخلها أصحاب الأرض التي سُرقت، كقنبلة موقوتة قد تنفجر في وجهها في أية لحظة. فمنذ اللحظة الأولى، والفكرة الأولى، والخطوة الأولى في القرن الفائت، كان هذا هو الهدف، ولم يزل.
أما كل تلك المهاترات الكلامية في المحافل الدولية، فليست سوى كذبة بربطة عنق!

إن المتتبع لتاريخ الاحتلال وخطواته في طريق السطو على الأرض، يرى هذه الصبغة بأوضح تجلياتها، وبلغة الحقائق:
لم يدخل الاحتلال قرية أو مدينة فلسطينية ليُهادن سكانها أو يجاورهم، بل ليُبيدهم ويستولي على مكانهم.
وغني عن الذكر أن عصابات الاحتلال -التي أصبحت فيما بعد جيش دولته- ارتكبت خلال أربع سنوات إبان النكبة فقط، خمسًا وعشرين مجزرة، قُتل فيها حوالي عشرة آلاف فلسطيني، ودُمّرت أكثر من أربعمائة قرية، وأُجبر أكثر من مائة ألف فلسطيني على النزوح قسرًا.
هذا في السجل الموثّق، دون اعتبار ما لم يُوثّق أو يُحصَ عددُ قتلاه، ودون حساب ضحايا التهجير ورحلة الهروب من الموت التي انتهت بلقائه!

كل هذا، مع ما ظل يحدث طوال السنوات التي تلت النكبة، يؤكد بلا أدنى شك أن الاحتلال لا يسعى إلى تفاهم، ولا إلى اتفاق، ولا إلى “حلّ”، ولا إلى “دولتين”.
وربما أصبحنا الآن أكثر اقتناعًا بهذه الحقيقة في ظل الإبادة الحالية، لكن الواقع أن هذا النهج مثبت منذ عقود، وتُسّرع وتيرته كلما سمحت الأحوال والظروف.

لا نحتاج إلى حرب جديدة، ولا إلى إبادة “عصرية”، لندرك ذلك.
فآلة الحصاد تعمل بكفاءة موازية في السجن الآخر؛ حيث الموالون المهادنون.
وبينما يتعجب هؤلاء من غضب “السيد” رغم عهود الطاعة التي يقدّمونها له صباح مساء، فإن التاريخ يتعجب من تعجبهم، وهو يطفح بنماذج الإبادات والمبيدين، ويضجّ بمآلات الثائرين في مقابل المنبطحين، في أحداث لا يختلف فيها سوى الاسم وزمن الوقوع.

خلال السنوات السابقة، كان ساسة الاحتلال يرددون مصطلح “حل الدولتين” ككلمة سرّ، تليق بمشعوذٍ على وشك أن يُدخل المجتمع الدولي في نوبة تنويم مغناطيسي.
وأخذ الجميع يكررونه خلفه، كوصفة شفهية لمرض عضال.
وربما انخدع البعض بإمكانية ترجمتها على الأرض، فتمسّك بها،
وربما علموا بحقيقة الخدعة، لكنهم فضّلوا تسكين الألم على خوض الجراحة!
فأصبح المصطلح شكلاً مراوغًا من تعابير السياسة، لا يُعلم كنهه، فلنردده على أي حال، ونرى ما يحدث!

لكن في السنوات الأربع الأخيرة، أعلنت دولة الاحتلال -الإحلال ذاتها- وبوضوح وقَطع، أنه لا مكان لدولة أخرى سواها على الأرض المسروقة، وبأكثر من صيغة وموقع وتوقيت.
طرْقَعت بأصابعها لتوقظ “المنوّمين”، وتُقِرّ بوقاحة أهدافها، وتُترجمها في غزة والضفة بالصوت والصورة، وباللون الأحمر القاني.

لم يعد ممكنًا بعد كل هذا أن نلفظ المصطلح-الجثة في معرض الحديث عن مصير الأحياء.
ولذلك، حين نسمعه الآن، نضحك… بمرارة.

تتباكى دولة الاحتلال -صاحبة أكبر تاريخ إجرامي في البشر– على ماضٍ تدّعي فيه التعرض لإبادة على يد مجرم نازي، ثم تتخذه مثلاً أعلى؛ فلا تكتفي باتباع خطاه، بل تزيد على فعله، وتضاعف، حتى تغدو رائدة الإبادة، وتنتزع اللقب النازي بجدارة!

وتتباكى من خلفها أوروبا –صاحبة أغنى تاريخ حروب في البشر– على “ضحايا الطرفين” في أحسن الأحوال، وتنتظر:
ربما يقضي أحدهما على الآخر، ونرتاح.

وفي أثناء ذلك، تظل سنة الكون الثابتة ماضية بجلاء:
لا قرار لمحتل، ولا فناء لشعب،
ولا بقاء لمجرم، ولا هزيمة لمقاوم.

يعرف ذلك العالم كله،
يعرفه تاريخ البلاد التي قاومت المحتلين في كل زمان ومكان، حتى طردته أخيرًا.

والفلسطيني هنا -قبل محتله– ليس في قاموسه “حلّ لدولتين”،
بل هو حلّ وحيد، مفاده:
“حلّ مفاصل دولة السارقين.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى