رسائل من بين الركام

إسراء العرعير – غزة
يبدو أن قدر الغزّي الذي كُتب له أن يولد فوق أرضه مرابطًا، هو أن يعيش في كل مرحلة حياةً جديدة،
وإن نجا من آلة الحرب الإسرائيلية،
عامٌ يتلوه عام،
تتوالى الحروب على غزة قبل أن تلتئم جراح الحرب التي سبقتها،
وكأن الألم صار قدرًا لا فكاك منه.
دمارٌ وخراب، دماء تسيل، وأرواح تُزهق،
بينما الاحتلال يمارس غطرسته، محولًا حياة أهل القطاع إلى كابوسٍ دائم.
وفي كل مرة، يحلم الناجون بالخلاص،
لكن القاعدة في غزة تقول:
إن نجوتَ من الموت، فلن تنجو من فقدان البيت.
ذاك الركن الأساسي للأمان،
ليجد الغزّي نفسه مقاتلًا من نوعٍ آخر،
يكمل عمره بين كوابيس الحرب وأطلال الذكريات.
كثيرًا ما شاء القدر أن نعيش بين الركام،
نتنفس الدخان والبارود، نصارع للبقاء.
كيف ننجو؟
لم نكن نعلم، سوى أننا نحاول التقاط أنفاسنا المختنقة برائحة الدمار،
نطفو على الحياة، لنجد أنفسنا مدفونين تحت أنقاض سقطت فوق رؤوسنا.
ومع كل محاولة، نخرج، نلملم جراحنا، نُضمّد ما يمكن،
نحاول الوقوف حتى لو كنا ممددين على أسِرّة المشافي.
المهم أننا ما زلنا نحاول.
نصارع للبقاء، نحاول إعادة بناء حياتنا من تحت أنقاضها،
نرسم أحلامنا وسط مدينة اجتاحها الموت والدمار لعقود.
في إحدى الليالي الحالكة من حرب الإبادة،
كانت صديقتي تحاول أن تغفو،
تهرب من صوت الطائرات وضجيج القصف إلى زاوية آمنة في مخيلتها،
لكنها لم تكد تُكمل تفكيرها، حتى وجدت نفسها تتطاير في الهواء،
ليس بفعل أرجوحة الطفولة المفقودة،
بل بفعل صاروخٍ إسرائيليٍ حاقد، أراد أن يمحو كل شيء،
أن يُطفئ كل روحٍ تنبض بالحياة.
استيقظت في المستشفى، تبحث في الوجوه من حولها،
فوجدت شقيقها وشقيقتها،
لكن أين والداها؟ أين أخوها الأكبر وعائلته؟
أين عمّها الوحيد وأبناؤه الذين شاركوها النزوح؟
حاولت استجماع شتات الفاجعة، حتى أدركت أن الجميع قد رحلوا.
تبعثرت أجسادهم بين الركام،
انضموا إلى آلاف العائلات التي محتها آلة الحرب من السجلات المدنية،
وإلى أولئك الذين كُتب لهم أن يكونوا الناجين الوحيدين،
يصارعون الحياة والذكريات وحدهم.
شهورٌ طويلة قضتها صديقتي بين المستشفيات،
تتنقل بين وفود طبية تحاول إنقاذ آلاف الجرحى،
الذين لم يجدوا طريقًا للعلاج خارج القطاع.
لكنها لم تستسلم.
وضعت ضمادًا على جرحها، وأكملت مشوارها،
ذاك المشوار الذي حلم به والداها:
أن تصبح طبيبة،
أن تفتح عيادةً تعالج فيها المرضى والجرحى.
اليوم، صديقتي مثل عشرات الآلاف من جرحى الحرب،
لا تزال تحلم بالعلاج والشفاء،
لا تزال تنتظر يدًا تمتد لتزيح الركام عن بيتها،
لتعيده شامخًا كما كان.
لا شفقةً ولا منّة من أحد، بل حقًا لها،
ولكل من حاولوا النجاة من بين الركام.