عن الوداع في غزة.. مَن أصبرُ منّا على هذا المُرّ؟

آلاء عوني المقيد – غزة
سألت أمي مرة عن سرّ صبرها المذهل في الوداع الأخير لأخي الشهيد، وهي التي كان قلبها من رقّته بالكاد يحتمل مواء قطةٍ لمحت فيه نبرة حزن، لكنها لم تُجبني مباشرة. غرقت في صمتها الثقيل، قبل أن تستحضر الموقف من جديد، ثم بكت كأنها لم تبكِه من قبل، وقالت لي:
“حين رأيته بالكفن أردت أن أصرخ، واقتربت من الجنون، فسمعت صوتًا يُرتل: وبشّر الصابرين. هدأت قليلًا، قبّلت جبينه، وقلت الحمد لله وأودعته للرحمن، ومضى.”
لم أرَ أمي، ولو لمرة واحدة خلال ثمانية عشر عامًا، ساخطة على فاجعتها بفقدان أخي الذي كانت على وشك أن تزفه عريسًا لولا أنه رحل!
نعم، كانت دائمة البكاء عليه حتى كادت تفقد بصرها، كثيرة الحزن في مواسم الفرح، لكنها كانت تصبر. الأنبياء أنفسهم كانوا بشرًا، يشعرون بمرارة المصائب وثِقلها، ويُعبّرون عنها، لكن ذلك لا يُنافي صبرهم واحتسابهم.
وهذه غزة!
منذ أن أطلت علينا الحرب برأسها، ومشاهد الوداع المؤلمة لا تنقطع؛ آباء وأمهات يودّعون أبناءهم، أطفال يودّعون آباءهم وإخوتهم، رجال يودّعون زوجاتهم، وناجٍ وحيد يبقى من بين كل أفراد عائلته… وهكذا تستمر الحياة على جمر الفقد.
ما أثقلها على القلب حين يُصيبه الوجع!
كلنا نُجمع على هذه الحقيقة ونستعيذ بالله من لحظة الفقد.
ومع أن هذا الروتين اليومي يغرق بالحسرة والقهر والدمع المُرّ، إلا أنه يكشف عن توليفة عجيبة؛ مزيج بين تجرّع العلقم، والصبر الجميل على قضاء الله، حتى يصبح الإنسان مؤمنًا أن:
“ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن النصر صبر ساعة، وأنه لا نصر بلا تضحيات، وأن كل شيء بقَدَر الله واختياره.”
فتجد أمًا تودع ابنها بحمد الله لأنها رأته “عريسًا”، في إشارة لكون الشهيد عريسًا في الجنة، أو تحمل نعشه على كتفها وتردد وهي في قمة وجعها: “مش خسارة على فلسطين.”
وأخرى تفقد أبناءها دفعةً واحدة، تتفطر ألمًا، لكنها تتفاخر بأن الله اصطفى فلذات كبدها شهداء.
هكذا تودع غزة شهداءها:
يقرأ طفل على أمه الشهيدة ما يحفظه من آيات،
ويتباهى أبٌ بابنه الشهيد سائلًا الله: “هل من مزيد لترضى؟”
وآخر، بعدما تنفجر دموعه الحبيسة على زوجته وطفلته، يقف أمام الكاميرات، وفي حضنه ابنه المتبقي، متعهدًا أن يكون الثأر على يد هذا الصغير:
“احفظوا ملامحه جيدًا (يا يهود)، سيكبر وينتقم لدماء أمه وأخته.”