تركيا بالعربي

“كأنني أكلت”.. قصة أغرب مسجد في التاريخ

تمتلئ أزقة وشوارع حي الفاتح في إسطنبول بآثار وعمران يمتد جذوره إلى مئات السنين. إن حملتك قدماك وتجولت في هذا الحي العريق، تستطيع أن تستنشق عبق التاريخ في كل ركن. وستعرف حينها أن لكل ركن حكاية، ولكل حكاية أبطال خُلِدت أسماؤهم، وتوارثت الأجيال المتعاقبة حكاياتهم، لتكون مصدراً ملهماً للحكمة والعبر.

تأتي إحدى أنبل وأرقى حِكايات حي الفاتح متجسدة في قصة بناء مسجد “كأنني أكلت”، حيث تروى قصة رجل عثماني تفانى في جمع المال على مدار عشرين عاما، لكي يشيّد في نهاية المطاف مسجداً، ليكون صدقة جارية له تحمل اسم قصته، وليضرب به المثل في الزهد والإنفاق ابتغاء مرضاة الله.

سر التسمية

لم يرد بطل هذه الحكاية أن يخلد اسمه، فأطلق اسما فريدا يخلد به قصة بنائه المسجد. تناقلت الأجيال المجاورة للمسجد نفس القصة بنفس التفاصيل، باستثناء ورود روايتين مختلفتين بحق بطلها، واحدة تقول إن من بنى هذا المسجد يدعى خير الدين كشتجي أفندي، والأخرى تقول إنه يدعى شاكر أفندي. غير أن ما يهم هو رسالة القصة، والحكمة التي غرستها في نفس كل من سمع بهذا المسجد وصلى فيه.

كان بطل الحكاية تاجرا من الطبقة الوسطى، ترجح أغلب الأقاويل أنه عاش وشيد المسجد في القرن الثامن عشر الميلادي. حيث كان يرى جوامع السلاطين العثمانيين الكبرى، ويحدث نفسه بأن يبني مسجدا ليكون عملا صالحا وصدقة جارية له.

هنا تبدأ القصة مع هذا الرجل الزاهد، فالبرغم من عدم توفر أي أموال لديه لبناء مسجد صغير، فإنه اعتزم أن يقتصد في مأكله ومشربه وملبسه، وطفق يجمع المال بنية تشييد مسجد. فكان إن اشتهى شيئا يسأل عن سعره، فيقول له البائع هذا ثمنه كذا، فيخرج الزاهد ثمن البضاعة من جيبه، فيضعها في جيبه الآخر ليجمع المال لبناء المسجد، محدثا نفسه قائلا: “كأنني أكلت”. ويفعل هذا الأمر مرارا وتكرارا ويزجر نفسه عن الإسراف عملاً بقوله تعالى في سورة الأعراف: “وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين”.

تشييد المسجد وصموده عبر العصور

بالرغم من محاولة الكثيرين لكف هذا الرجل عن رغبته، فإنه صمد وكبح شهواته، ليصل إلى مناله بعد عقدين كاملين. فقد جمع هذا الزاهد أخيرا ما يكفيه من الأموال، وشيد المسجد في حي الفاتح، وتحديدا في منطقة “زايرك” التي تقع بالقرب من الخليج الذهبي. واختار الرجل هذا الاسم الفريد “كأنني أكلت” وأطلقه على المسجد. ولم يتغير اسم المسجد حتى يومنا هذا، ليبقى هذا الاسم شاهد على حكاية بناء المسجد، ويذكر القاصي والداني بزهد هذا الرجل الذي بناه.

احترقت أغلب أركان المسجد في أثناء حريق نشب في المنطقة المحيطة به في غضون الحرب العالمية الأولى. وبقي مقفلا حتى عام 1959، حيث تجمّع أهالي المنطقة وقرروا إعادة إعمار المسجد من خلال نفس النية الطيبة التي أسس عليها، وهي جمع الأموال ليكون صدقة جارية لهم.

وبقي اسم المسجد يذكر كل من مر به وصلى فيه، بأن المرء لا ينبغي له أن يشتري كل ما يشتهي، بل وعندما تحدثه نفسه بالإسراف وشراء الأشياء غير الضرورية، فينبغي أن يكون شعاره حينها “كأنني أكلت”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى