مصطلحات زمن الإبادة

آية أبو طاقية
لم تعد ذاتُ المصطلحات تعبّر عن تحديث الإبادة التي نعيشها داخل قطاع غزة؛ ثمة فرق واضح بين ما ألفناه في علم اللغة، وبين ما نقوله الآن تعبيرًا عمّا نعايشه. كأننا نعيش داخل معجمٍ من الأوصاف التي لا تُترجم للعيان.
خلال الليالي الماضية، كادت قذائف القصف تَسلب أنفاس أطفالي. كان قلب الواحد منهم يوشك أن يتوقف، شوقًا للحظة راحةٍ مؤقتة. لا يسمحون لنا باستنشاق رائحة الحياة، كأنهم يُغرقون رؤوسنا في أوعيةٍ من الماء العكر، حتى إذا شارَفنا على الاختناق، أعادونا لنُبصر كواليس الموت في وجوههم مرةً أخرى. إنهم يُذكّروننا بالموت المستحب لديهم – من وحي عقيدتهم – فيمرّرونه أمامنا، وجوبًا، كي لا ننساه.
أقول ذلك لأخبركم أن موتنا الذي نُعاينه ليس شكلاً من أشكال الموت الذي تُسمّونه بألسنتكم، وإن بدا مفهومًا أو مألوفًا أمام شاشاتكم.
لا يمكن لهذا النوع من الموت أن يصير صديقًا للبشر، حتى لو اعتادت الجماهير تكراره. نحن نَبغض شكله هذا، وإن حاول البعض تسويقه طريقًا للنجاة. هم يُريحون ضمائرهم حين يموت شخصٌ آخر لم يعُد قادرًا على تقصّي النجاة في هذه المدينة.
والحقيقة أننا لا نفقد رهبة الموت الذي يحاول مصادقتنا، ويستحيل علينا ذلك. نحن نُصدّقه حين يَمسّ عروق أحبابنا فيقطعهم عنا، نُصدّقه… ولا نُصادقه.
فقدتْ صديقتي زوجها في مجزرة مستشفى الشفاء. وَعدَها – مضطرًا – أن يلتقيا، وغادرته – مرغمة – لأنه حتمًا لا يُخلف الميعاد.
لم يعُد.
وحين وضعت المجزرة أوزارها وانسحب الاحتلال، بحثت الرفيقة عن دلائل موتٍ محقّق، وقد اعترف العدو بقتله ورفاقه. كانت تبحث في موته عن إشارات للحياة.
لم تجد جسدًا تستدلّ عليه، ولا نظرةً للختام، ولا اجتماعًا أخيرًا مع أطفالهما قبل الاختفاء.
كيف تُصدّق الحبيبة أنه مات؟
لقد مات.
لكنها سألتني ذات مرة: “هل فعلًا مات؟”
أيُّ معنىً للموت يسمح لأجساد الراحلين أن تتحول إلى درسٍ في علم الغيب؟
الأجساد مادة الروح، يجب أن تُعلّمنا كيف نفارقها، ونصبر على جنائزها خطوةً تلو خطوة، حتى نُكرمها بدفنها في مدافنها.
أجساد الأحبة كنوز الوداعات. نستدلّ بها حين نلقاهم مرةً أخرى على أبواب الجنة.
لكن أيّ معنى من معاني الموت أقسى من أن لا تودّع حبيبك، أو أن تشكّ حتى في موته؟
أهذا موت؟