مقال | في فلسطين فقط.. تحمل الأم ابنها مرتين: جنيناً وشهيداً

د. عبير عبد الله الرنتيسي

خنساوات في قلب الطوفان

تحية تقدير وإجلال وإكبار إلى الخنساوات في قلب الطوفان، أولئك النساء اللاتي يتبارين في تقديم أروع الأمثلة في البذل والعطاء، في الصبر على الابتلاء، وفي التنافس لنيل الآخرة. لقد حددن هدفهن، ورفعن شعارهن، واخترن طريقهن ليصبحن أمهات الشهداء، زوجات الشهداء، بنات الشهداء، وأخوات الشهداء، بل ليصبحن الشهيدات أنفسهن.

إنه أوان البذل والتضحيات، زمان الشهادة والاستشهاد. فما أعظم هذا الفهم الذي تتمتع به نساء فلسطين، فما كان لنا أن نرى هذا الصنف من القادة والمجاهدين إلا بوجود أمثالهن، اللواتي كنّ مصانع للرجال، وحاضنات للمجاهدين الأبطال.

هنّ خنساوات هذا الطوفان، قدّمن صوراً نادرة في تجسيد مواقف المرأة الفلسطينية المؤمنة؛ كأم، وزوجة، وأخت، وابنة، اختارت السير على درب نسيبة والخنساء. فارتقى دور نساء فلسطين إلى مستوى استشهادي لم يشهد له التاريخ مثيلاً؛ فهي لا تدفع ابنها لمقاومة المحتل فحسب، بل تقاوم بفكرها وتربيتها ونشرها الوعي بين الأجيال.

في حين عَرَفَ التاريخ العربي الإسلامي خنساء واحدة، الصحابية تماضر بنت عمرو، التي استشهد أبناؤها الأربعة في معركة القادسية سنة 14 هجرية، وقالت حين بلغها الخبر: “الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته”، ها نحن اليوم نشهد في فلسطين عشرات القصص عن أمهات قدّمن فلذات أكبادهن لساحة القتال.

لقد شهد طوفان الأقصى آلاف الخنساوات اللواتي فقدن أبناءهن في معركة الدفاع عن الأرض والوطن والوجود، فاستقبلن استشهاد أبنائهن بالزغاريد وحمدن الله على هذه النعمة، رافعات شعار: “الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم”. فقد اخترن طريق الخلود، وسرن في ركب الشهداء، فأصبحن يتقن المقاومة كما يتقن الأمومة.

هذه هي المرأة الفلسطينية المسلمة؛ تصنع التاريخ وتبني بنيان الكرامة، فلم ترضَ أن تكون متفرجة أو نائحة، بل أبت إلا أن تكون في قلب الحدث، تصنع الأحداث وتقدّم التضحيات. هي أم الشهيد الصابرة، مفتاح القدس ونورها، الأم والأخت والأسيرة والشهيدة، والحياة بكل ما فيها.

هي التاريخ الفلسطيني الحافل في كفاحه من أجل تحرير الأرض والمقدسات، وبناء دولة فلسطينية مستقلة، قدمت في مسيرتها آلاف الشهيدات والجريحات والأسيرات. لذلك، ليس غريباً أن تكون في طليعة من يقدّم الأرواح في معركة “طوفان الأقصى”، حيث تجاوز عدد الشهداء حتى الآن أربعين ألفاً، معظمهم من النساء والأطفال.

إن خنساوات الطوفان هنّ مدرسة عظيمة، وعطاؤهن يشكل منعطفاً تاريخياً في حياة الأمة بأسرها، فنحن اليوم أمام مرحلة جديدة لا تعرف التراجع، ولو كان الثمن هو فلذة القلب. في فلسطين، وفلسطين فقط، تحمل الأم ابنها مرتين؛ مرة جنيناً في بطنها، وأخرى شهيداً على رأسها. لقد جسدت “خنساوات الطوفان” مقولة الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي: “إن للوطن نساءً يعرفن صناعة الرجال، ورجالاً يعرفون صناعة الموت”.

Exit mobile version