نساء غزة.. ملحمة بقاء


فاطمة العبد الله – غزة
تعيش النساء في غزة فصولًا متكررة من النزوح والتهجير القسري، حيث يجدن أنفسهن في قلب العاصفة مع كل عدوان جديد. لا دروع تحميهن، ولا هدنة تمنحهن فرصة لالتقاط الأنفاس، بل يتجرّعن مرارة الحرب مرة تلو الأخرى، حتى بات الصمود قدرًا لا خيارًا.
إنهن الأمهات اللواتي يتحدين الفقد، والزوجات اللواتي يواجهن الترمل، والفتيات اللواتي يَكْبُرن قبل أوانهن، والطبيبات والمسعفات والإعلاميات اللواتي يواجهن الموت لإنقاذ الأرواح ونقل الحقيقة. حملن على أكتافهن مسؤولية البقاء رغم كل شيء، فلم تكن خساراتهن نهاية، بل بداية لمعركة لا تزال مستمرة من أجل الحياة.
نزوح بلا نهاية
مع كل قصف جديد، تبدأ رحلة النزوح من جديد. يفرّ المدنيون بحثًا عن ملاذ آمن، لكن لا أمان في مدينة محاصرة. تُظهر التقارير أن أكثر من 34,697 سيدة هُجّرن جراء تدمير منازلهن بشكل كلي أو جزئي، أو نتيجة الحصار الذي فرضه الاحتلال على أحيائهن، ليُجبرن بالقوة على النزوح.
لم يكن الطريق إلى الجنوب مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل كان رحلة موت بأشكال مختلفة؛ قصف يلاحق الفارين، إهانات وتنكيل على الحواجز، واعتقالات تعسفية طالت الكثيرات. تروي شادية (30 عامًا) كيف فقدت عمتها عند أحد الحواجز، حيث توقف قلبها وسط الفوضى، ولم تجد من يسعفها. تتذكر بعينين دامعتين:
“لم أستطع حتى أن أودعها. كانوا يصرخون بنا لنتحرك، ولم يكن هناك وقت للحزن. تركناها خلفنا، وأكملنا الطريق، وكأننا مجرد أرقام في طابور الموت”.
الحرب تتحول إلى خيمة
في العراء، تحت السماء الملبدة بالدخان، وجدت النساء أنفسهن داخل خيام لا تقي حر الشمس ولا برد الليل. لم يعد للنوم معنى، ولم تعد الخصوصية حقًا، حيث تعيش العائلات بأكملها في مساحات ضيقة، بلا أبواب تُغلق أو جدران تحمي.
تقول أم سليم (45 عامًا)، وهي أم لخمسة أطفال:
“في الليل، أطلب من بناتي أن يلتصقن بي. أخاف عليهن أكثر من خوفي على نفسي. لا نشعر بالأمان، ولا نملك حتى مكانًا نبدل فيه ملابسنا دون أن يرانا أحد”.
في المخيمات، تتحول النظافة إلى ترفٍ نادر، حيث تفتقر النساء إلى الماء والصابون، وتضطر بعضهن لاستخدام قطع قماش بدلًا من الفوط الصحية. تقول ليلى (23 عامًا):
“لم أتصور يومًا أنني سأبحث عن قطعة قماش لأستخدمها أثناء دورتي الشهرية. أشعر بالقهر كل مرة أضطر فيها إلى ذلك، لكنه الخيار الوحيد”.
أما النساء الحوامل، فهن الأكثر معاناة. وضعت العديد من الأمهات مواليدهن داخل الخيام، في ظروف غير آدمية، وسط نقص في الرعاية الصحية والتعقيم. تتحدث أم ياسين، التي أنجبت طفلها في المخيم:
“عندما بدأ المخاض، لم أجد من يساعدني. كنت أتألم بصمت، محاطة بنساء لا يملكن شيئًا سوى الدعاء لي. لم يكن هناك مستشفى قريب، ولم يكن معي أي مسكن للألم”.
الصمود رغم الألم
ورغم قسوة الظروف، ترفض نساء غزة الاستسلام. ففي ظل الفقر المدقع وانعدام الأمان، يواصلن حماية عائلاتهن وصنع الحياة من العدم. تجدهن يبتسمن لأطفالهن رغم الجوع، يصنعن الخبز من القليل المتاح، ويتبادلن قصص الأمل وسط الدمار. بعضهن يقمن بتنظيم جلسات دعم نفسي للنساء الأخريات، وأخريات يدرن مطابخ صغيرة لإطعام العائلات الأكثر احتياجًا، في محاولة لخلق شيء من الحياة وسط الموت.
هؤلاء النساء لسن مجرد نازحات في خيام، بل هن مقاتلات في معركة البقاء. يحملن في قلوبهن آلام العالم، لكنهن أيضًا يحملن الأمل في يوم يعود فيه لكل واحدة منهن بيت، وباب يُغلق، وسقف يحمي.
إذا كان للوطن وجهٌ، فوجه المرأة الغزّية هو وجهه الأصدق، وجهٌ يحمل ملامح الحزن، لكنه مفعمٌ بالإصرار. يشهد على الخراب لكنه يبني، يعاني لكنه لا ينكسر.