أنفاق غزة.. ابتكار فرضته الحاجة أقض مضاجع الاحتلال
قد يبدو قطاع غزة، الذي يتربع على مساحة 360 كيلومتراً مربعاً، بيئة ساحلية مفتوحة، يَسهُل على أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية مراقبة كل ما يجري على ظاهرها، لكن ما يدور في باطن الأرض يُخفي تفاصيل كثيرة.
فتحْتَ تلك المدينة الصاخبة، المكتظة بالسكان، ترسو شبكة من الأنفاق المُعقدة، التي طوّرتها حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية خلال السنوات الماضية، في إطار استعداداتها للمواجهة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وقد مثّلت “الأنفاق” أحد أبرز محاور التصعيد العسكري الأخير في قطاع غزة، وأعلنت قيادة الاحتلال أن القضاء على “مترو حماس” (وفق التسمية الإسرائيلية)، أحد أهداف عمليتها العسكرية، التي أطلقت عليها “حارس الأسوار”.
في 13 نيسان/ أبريل الماضي، تفجرت الأوضاع في فلسطين جراء اعتداءات “وحشية” إسرائيلية بمدينة القدس المحتلة، وامتد التصعيد إلى الضفة الغربية وتحول إلى عدوان عسكري في قطاع غزة انتهت بعد 11 يوماً بوقف لإطلاق النار فجر 21 أيار/ مايو الماضي.
وأسفر العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية عن 290 شهيداً، بينهم 69 طفلا و40 سيدة و17 مسناً، بجانب أكثر من 8900 مصاب، مقابل مقتل 13 إسرائيلياً وإصابة مئات؛ خلال رد الفصائل في غزة بإطلاق صواريخ على الاحتلال.
فما القيمة التي تمثلها شبكة الأنفاق في غزة؟ وهل صحّ الادعاء الإسرائيلي بإلحاق أضرار بالغة فيها؟
ابتكار فرضته الحاجة
لجأت المقاومة الفلسطينية إلى حفر الأنفاق، لأول مرة، إبّان الانتفاضة الفلسطينية الثانية “انتفاضة الأقصى” عام 2000، حيث استخدمتها في تهريب السلاح عبر الشريط الحدودي لقطاع غزة مع مصر (جنوبا)، والتي كانت تُسيطر عليه دولة الاحتلال قبل انسحابها من القطاع عام 2005.
ولم تكن الأنفاق – في ذلك الحين – بتلك الجودة والإتقان التي عليها الآن، فكانت بدائية من حيث عمقها وطولها، والآليات المستخدمة في حفرها، ولم يتجاوز أطولها الـ600 متر.
وتمكنت المقاومة الفلسطينية، من ابتكار الأنفاق كأسلوب تكتيكي جديد في المواجهة مع الاحتلال، عبر مهاجمة المستوطنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية (ما قبل عام 2005)، ما شكّل تهديداً أمنياً أسهم في دفعها نحو الانسحاب من غزة.
وفي آب/ أغسطس 2005، انسحبت قوات الاحتلال بشكل كامل من قطاع غزة، وفق خطة أحادية الجانب، في وقت اعتبر فيه الفلسطينيون الخطوة انتصارا لهم، وأنها تمت بفعل ضربات المقاومة.
فقد نفذت المقاومة، عبر الأنفاق، عدداً من العمليات العسكرية الكبيرة ضد المواقع الإسرائيلية، بين عامي 2001 و2004، والتي شكّلت أحد أبرز ملامح الانتفاضة المُسلحة، وأشدها ضراوة.
وبفضل الأنفاق، فقد تمكّنت المقاومة الفلسطينية من أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، في حزيران/ يونيو 2006، وإخفائه 5 سنوات، إلى أن تم إطلاق سراحه في صفقة تبادل للأسرى، أفرجت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بموجبها عن 1027 أسيراً فلسطينياً، في تشرين الثاني/ أكتوبر 2011.
ومع مرور السنوات، أخذ بناء وتطوير الأنفاق منحى متصاعداً في استراتيجية المقاومة وتكتيكاتها، إذ تنوعت استخداماتها في مختلف الخطط العسكرية؛ في محاولة للتغلب على التفوق العسكري الإسرائيلي ميدانياً، وخاصة سلاح الطيران.
ووفّرت الأنفاق ميزة التخفي عن مختلف أجهزة المراقبة الإسرائيلية براً وجواً وبحراً، ما منح عناصر المقاومة الفلسطينية أريحية نسبية في تنفيذ خططهم العسكرية دفاعياً وهجومياً، بعيداً عن أعين الاحتلال.
بهذا الصدد، قال الخبير العسكري اللبناني والعميد المتقاعد أمين احطيط، إن “إرادة القتال” لدى المقاومة الفلسطينية، وابتكار الأساليب القتالية بالاستفادة من تجارب سابقة على مستوى العالم، وجّها نحو اللجوء إلى حل “الأنفاق”؛ للتغلب على العجز أمام الطيران الإسرائيلي.
وأوضح “احطيط”، في مقابلة مع وكالة الأناضول، أن إسرائيل تمتلك السيطرة الجوية على قطاع غزة، الذي هو منطقة مفتوحة سهلية، تمثل ميداناً نموذجياً لعمل الطيران في التتبّع والمراقبة.
وأضاف أن المقاومة الفلسطينية كانت أمام حلّين: إما الاستسلام للواقع والاعتراف بأن البيئة لا تُمكّن من إدارة معركة غير تقليدية، أو اللجوء لابتكار وسائل جديدة لسد تلك الثغرة.
وتابع الخبير العسكري: “باستخدام الأنفاق، عالجت المقاومة ثغرات مهمة في بيئتها الدفاعية، وعطّلت على الاحتلال إمكانات واسعة كان يلجأ إليها بالطيران، وتمكنت من الثبات في المواجهة”.
مفاجأة كبيرة
وخلال الحرب على غزة، صيف 2014، أحدثت الأنفاق مفاجأة عسكرية كبيرة للجيش الإسرائيلي، عبر عمليات “الإنزال خلف الخطوط” التي نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد المواقع العسكرية الإسرائيلية أثناء دخول القوات برّا على حدود القطاع.
وقد اعترف عدد من قيادات الجيش وضباطه، في استخلاصاتهم للحرب التي استمرت 51 يوماً، بفشل استخباري كبير، وإخفاق وسوء تقدير لحجم وقدرات شبكة الأنفاق التي بنتها “حماس” خلال سنوات ما قبل الحرب.
وقدّر العسكريون الإسرائيليون أن الجيش قد أنهى عمليته العسكرية حينها، دون دلائل دامغة على تدمير الأنفاق.
ويُعتقد أن الجنديين اللذيْن فقدهما الجيش الإسرائيلي في حادثين منفصلين بغزة خلال الحرب، “شاؤول آرون” و”هدار غولدن”، تم أسرهما عن طريق الأنفاق إلى داخل القطاع، ولا يزال مصيرهما مجهولاً حتى اليوم.
مدينة متكاملة تحت الأرض
ويرى “احطيط” أن شبكة الأنفاق في غزة تمثل مدينة كاملة تحت الأرض، تتضمن جميع العناصر التي تلزم العملية القتالية بأوجهها كافة.
وأشار إلى أن الأنفاق تضم “منظومة القيادة والسيطرة”، التي تعدّ الركن الرئيس في إدارة أي معركة، بما تشمله من مفاصل قيادية، وغرف إدارة العمليات، التي (برأيه) لو كانت مكشوفة لاحتلال لدمرتها بشكل كامل.
وبحسب “احطيط”، فإن مخازن السلاح والذخيرة ومستودعاتها، ومعامل إنتاجها، ومنصات إطلاق الصواريخ، كل ذلك يتم عبر شبكة الأنفاق تحت الأرض، فضلاً عن شبكة اتصالات خاصة بإدارة العمليات يتعذر عليه مراقبتها.
وبفعل ما سبق، فإن الخبير اللبناني يرى أن الأنفاق عطّلت على الجيش الإسرائيلي استعمال سلاحه بشكل فعال، ومنحت المقاومة القدرة على الثبات في المعركة الطويلة.
وإبان العدوان الإسرائيلي في مايو، خرج رئيس أركان الجيش “أفيف كوخافي” بالقول إنه تم تدمير معظم قدرات حماس الصاروخية، عبر غارات استهدفت ضرب المصالح تحت الأرضية “مترو حماس”.
وأضاف كوخافي حينها: “هناك ضربة قوية لكيلومترات عديدة من الأنفاق في شمال قطاع غزة”.
من جانبه، نفى يحيى السنوار رئيس حركة حماس في غزة، مزاعم جيش الاحتلال الإسرائيلي، وذلك في لقاء عقده مع صحفيين عقب انتهاء العدوان على غزة.
وقال السنوار إن حركته أفشلت “خطة كوخافي” التي أعدها منذ سنوات للقضاء على الأنفاق تحت مسمى “رياح الجنوب”، والتي هدفت بحسبه إلى قتل 500 مقاتل من حماس.
وأضاف أن “لدى حماس 500 كلم من الأنفاق تحت الأرض، لم تُلحق إسرائيل ضرراً سوى بـ 5% منها”.
لا دلائل دامغة
وتعقيباً على ذلك، فقد اعتبر “احطيط”، أن الاحتلال تصرف بنوع من “العنجهية والخفة”، حينما أعلنت أنها دمرت أنفاق حماس، ولم تقدم الدليل على ذلك.
وقال، إن “إسرائيل “قد تكون دمّرت أجزاء معينة من الأنفاق، أما أن تكون قد دمرت الشبكة برمّتها وهي لم تدخل إلى القطاع برياً، ولم تُحدد أماكنها بدقة، فهذا أمر مردود عليها”.
خيارات التعامل
ويرى العميد المتقاعد بالجيش اللبناني، ألا حلّ مُجدياً لدى الاحتلال لإنهاء خطر الأنفاق في قطاع غزة.
ويستبعد احطيط أن يتمكن الاحتلال من الوصول إلى حل للأنفاق، “إلا إذا قررت الدخول برياً واحتلال غزة أو أن تقوم بين الفينة والأخرى بعملية اجتياح واسع وتدمير الأنفاق أولاً بأول”.
واستدرك بأن “إعادة احتلال غزة غير ممكن حالياً لأن إسرائيل تتهيّب من دخول غزة برياً، وتحسب حساباً للتكلفة الباهظة التي سيدفعها جيشها، والتي لا تقل عن وقوع ألفي قتيل في صفوف جنوده، بحسب تقديرات إسرائيلية”.